عندما يكتفي العرب بالمناكفة في سورية

18 أكتوبر 2019
+ الخط -
تنافس الأجندات الإقليمية والدولية على الأرض السورية من أهم الأبعاد التي أعادت عملية "نبع السلام" العسكرية التركية في شمال شرق سورية تسليط الأضواء عليها. ويمكن حصر أصحاب تلك الأجندات المتنافسة في إيران وتركيا وإسرائيل، إقليمياً، وروسيا والولايات المتحدة، دولياً. في حين نلحظ غياباً شبه تام للأجندة العربية، وضعفاً في حضور الأجندة الأوروبية التي يبدو أنها مرتهنة لحدود السقف الأميركي المنخفض، واضطراب مقاربة واشنطن في السياق السوري، وبالتالي، تقليص هامش المناورة أمامها (أوروبا)، على الرغم من تأثرها مباشرة بتداعيات الأزمة السورية، كما في ملف اللاجئين غير الشرعيين. وإذا نظرنا إلى معطيات الساحة السورية اليوم، نجدها تمثل إما مخرجاتٍ لتنافس الأجندات الإقليمية والدولية المتعارضة، وهو ما ينسحب على الوضع في سورية راهناً ككل، أو أنها مخرجات مساوماتٍ وصفقاتٍ، كما هو الوضع في إدلب حاضراً. 
أما إذا ما نظرنا إلى أجندة كل طرف على حدة، فسنجد أن روسيا هي الرابح الأكبر، وقد حققت جلَّ ما تريده من أهداف، فعمليا، تمارس موسكو وصايةً على النظام السوري، وأمّنت موطئ قدم مباشرا لها في قلب منطقة الشرق الأوسط، كما أمّنت وجودا عسكرياً على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، كما في اللاذقية وطرطوس، مستفيدة من التردّد والتراجع الأميركي. أما الولايات المتحدة، فصحيح أنها تمكّنت من هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسورية، وإقامة شوكتين في خاصرة النظام السوري وإيران وتركيا، سواء عبر دعم مليشيات كردية في شمال شرق سورية، وهو ما يستفز تركيا تحديداً، أم عبر قاعدة التنف العسكرية جنوبي البلاد، عند المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني، وبالتالي قطع طريق بغداد - دمشق، ومنع إيران، على الأقل إلى الآن، من السيطرة على الخط البري الواصل بينها وبين سورية، عبر العراق. إلا أن الأوراق الأميركية في سورية تكاد تتبدّد بقرار ذاتي، ذلك أن مقاربة واشنطن، منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، تعاني من التردد، وأضاف إليها ترامب كثيرا من الفوضى.
وحظيت إسرائيل، ربيع العام الجاري، باعتراف أميركي بشرعية احتلالها مرتفعات الجولان، إلا 
أنها، في المقابل، وجدت نفسها أمام تحدٍّ إيراني عسكري مباشر، فضلا عن وكلائها، على حدودها الشمالية الشرقية. أما إيران، الرابح الأكبر الثاني بعد روسيا، فهي الوصيُّ الآخر على النظام السوري، وقد نجحت في تأسيس وجود عسكري لها هناك على مقربة من إسرائيل، فضلا عن أنها على مشارف إنشاء ممر بري آمن يمتد من حدودها (في حال إتمام الانسحاب العسكري الأميركي من سورية)، عبر العراق، إلى سورية ولبنان، وصولا إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. تبقى تركيا، وهي الضلع الإقليمي المنافس الثالث في أرض الشام، والتي يبدو أن اهتماماتها محصورة في منع قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية مع سورية، مخافة تعزيز النزعات الانفصالية لدى بعض أكرادها، فضلا عن إقامة "منطقةٍ آمنة" في شمال شرق سورية على أمل إعادة توطين مئات آلاف من اللاجئين السوريين على أراضيها، والذين يناهزون ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ. إلا أن تركيا تواجه عقبات وتحديات صعبة في ذلك، إذ تكاد تكون وحدها بلا حلفاء حقيقيين من بين الأضلاع الإقليمية والدولية الأخرى، خصوصا بعد أن خسرت المبادرة في الساحة السورية جرّاء ترددها في حسم أمرها في السنوات الثلاث الأولى للثورة هناك. وكان عام 2014 نقطة تحول مفصلية في سورية ضد طموحات تركيا وقدراتها في التأثير على الأحداث، إذ كانت الولايات المتحدة قد أطلقت تحالفها الدولي ضد "داعش" في العراق وسورية. وأضاف التدخل العسكري الروسي المباشر عام 2015 لصالح النظام قيداً آخر على تركيا ومساحة المناورة المتاحة أمامها سورياً.
ما سبق يعني أن أي حل سياسي في سورية لا يمكن أن يكون إلا حصيلة مساوماتٍ بين الأضلاع الإقليمية والدولية المتصارعة على أرضها مباشرة، وهذا يجعل من دور النظام السوري هامشيا
 إلى حد بعيد. المفارقة هنا أن العرب لا يقلون هامشية في هذا السياق، وجهود بعضهم اقتصرت، ولا تزال، على محاولة تأجيج النيران في البلد المنكوب، لا محاولة إيجاد توازناتٍ فيه تفسح المجال لحل سياسي انتقالي. ومن هنا، تمثل بعض المواقف العربية المتمثلة في إدانة العملية العسكرية التركية في شمال شرق سورية ضد المليشيات الكردية تمثل قمة النفاق السياسي، ذلك أن تلك الدول لم تُدن يوماً التدخلات الأميركية والروسية، في حين اكتفت بالتنديد بالدور الإيراني، وسكتت دوماً على القصف الإسرائيلي المتكرّر في الأراضي السورية. الأدهى أن بعض الدول العربية، كالسعودية والإمارات، تحديدا، لم تتورّعا عن دعم المليشيات الكردية في محاولة لاستثارة تركيا، في حين لم تتردد مصر، تحت حكم عبد الفتاح السيسي، في دعم نظام بشار الأسد سياسياً، وربما عسكرياً. حتى جامعة الدول العربية التي اجتمع أغلب أعضائها على إدانة "العدوان" التركي، لم تكلف نفسها عناء إدانة الاعتداءات الصادرة عن الأطراف الأخرى، كأميركا وروسيا. وبهذا يكون الموقف العربي في سورية محصورا في دور المشاغب والمناكف، وتحديدا لتركيا أولاً، ثم إيران ثانياً، في حين تغيب أجندته، وبالتالي، فإنه لا يملك في المحصلة تأثيرا على مخرجات أي حل سياسي قادم هناك.
باختصار، تقدّم الأزمة السورية واحدة من أجلى صور انعدام التوازن وغياب رؤية ومشروع وموقف عربي. لقد تحولت المنظومة العربية الرسمية إلى منظومة نقض وهدم للذات، بل وتآمراً عليها، وبالتالي كشف ساحتنا أمام التدخلات الأجنبية، إقليمياً ودولياً.