13 نوفمبر 2024
عندما يطلب البارزاني الحوار مع بغداد
تفاجئنا الأحداث، فلا نملك لها ردا، نروح نتخبط وننتظر ما يقرّره الآخرون نيابة عنا. وفي نهاية المطاف، نمارس لعبة جلد الذات، لأننا لم نتقن قراءة ما يدور من حولنا، ولأننا لم نتعلم من تجاربنا.
تفكر في واقعة "الاستفتاء" التي جاءت من حيث لم نتوقع، تضع يديك على قلبك وخوفك على مصير "العراق الواحد الموحد"، وما يمكن أن يؤول إليه بعد أن أوشكت الرياح الهابة من داخله أن تقتلعه وتحيله إلى "عراقات"، أو ربما إلى محوه من الخرائط، كما تنبأ بذلك أكثر من باحث وسياسي.
قد أواجه اتهاما بأنني أروّج ما يريده أعداء وخصوم، وقد يلاحقني عتابٌ ممن أعرف على خلفية تشاؤمي الذي قد يبدو له أزيد من المعتاد، لكن المسألة، على ما تتراءى لي لم تعد أسيرة خطط سرية أو مؤامرة مضمرة تفيض شرورا، بل أصبحت أكثر من مفضوحة، وانكشف الستر عنها مع إصرار القيادة الكردية على الاستمرار في اللعبة حتى نهايتها التي أضحت، هي الأخرى، معروفة.
نستعيد تاريخنا القريب، نعلم أن مئة عام مرت منذ تأسيس دولة الملوك، ونحن ننظر إلى "العراق الواحد الموحد" على أنه "قدس الأقداس"، غير مدركين أن جغرافية الدول قد تتعرّض للانحلال، وخرائطها قد تتغير إذا لم ترعَها يد حانية، تعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ولعلها مفارقة لافتة أن يشعر الملك المؤسس فيصل الأول، في بدايات الأعوام المئة، بخطورة ما قد تخبئه الأيام، وفي وصيةٍ ضافية، ينبه خاصته ورجال حكمه إلى أن العراق "يضم قسما كرديا أكثريته جاهلة، بينه أشخاص ذوو مطامع شخصية، يسوقونه إلى التخلص من حكومته، بدعوى أنها ليست من عنصرهم"، والمسألة قد تكبر إذا لم تجد حلا يراه هو في "إعطاء صلاحيات للألوية (المحافظات) شبيهة بمجالس الولايات في العهد العثماني، لتشويق السكان للاشتراك في الحكم"، لكأنه كان يقرأ في مفهوم "الدولة الاتحادية" التي تتيح توزيع السلطات بين المركز والولايات التابعة في إطار الدولة الواحدة، وعلى قاعدة المواطنة المتساوية التي لا تؤجج مشاعر الغبن أو الظلم أو الاضطهاد النفسي.
انقضت عقود طويلة، نسي الناس فيها وصية فيصل، وجرت خلالها مياه كثيرة، نقلت العراق من الملكية إلى جمهوريات متعاقبة، شهدت محاولات عديدة لحل المسألة الكردية، آخرها بيان آذار /مارس عام 1979 الذي أقر الحكم الذاتي للأكراد، وضمن حقوقهم القومية، كما أقام مؤسساتهم الدستورية الخاصة، إلا أن مكائد القوى الأجنبية ضد العراق، واستخدامها الشرير الورقة الكردية، وتمسّك بغداد بسلطة مركزية صارمة، وأحيانا قامعة، ألقى بظلاله على التطورات اللاحقة، وكاد أن يفرغ بيان آذار من مضمونه، حتى إذا ما تقطعت خيوط وحدتنا الوطنية، واخترق الغزاة حدودنا، استغلت القيادة الكردية الحال، وتصرّفت بذكاء محسوب، وعملت على تأسيس ما يمهد لدولةٍ لها حكومتها وجيشها وبرلمانها وعلمها ونشيدها الوطني، ولها ممثلياتها الدبلوماسية في الخارج، وتعاملاتها المباشرة مع أكثر من دولة وجهة خارج إطار الدستور الذي شاركت هي في إقراره، وفي كل هذا لم تحرّك حكومة بغداد ساكنا، واكتفت بالتلميح أو التصريح الخجول لرفع العتب، إلى أن جاءت واقعة "الاستفتاء"، لنكتشف أنها كانت غائبة أو مغيبة بفعل فاعل.
وها هو مسعود البارزاني، اللاعب الذكي، يستغل مناسبة حزينة، هي واقعة تشييع الرئيس الراحل جلال طالباني، ليلقي بورقته الأخيرة عبر "توليفة" بروتوكولية، تهدف إلى إشهار الانفصال عن العراق، وتكرس قيام الدولة أمام العالم، ينقل الجثمان من ألمانيا بطائرة عراقية تأخذ طريقها مباشرة إلى السليمانية، ولا تمر بعاصمة البلاد، ويغطى الجثمان بعلم كردستان، ويعزف النشيد الوطني الكردي، في تجاهل تام ومقصود لدولة العراق التي كان الراحل رئيسها دورتين يخضع لدستورها، ويستظل بعلمها. وإذ أفادت أسرة الراحل أنها أحضرت علم العراق، لتغطي به الجثمان، وأن سلطات أربيل ركنته جانبا، فذلك يعني أن ثمة تصميما منها على استغلال لحظة الحزن الفارقة عمدا، لإشهار ولادة دولة جديدة، لها كل مقومات الدولة، اسمها جمهورية "كردستان"، وعلمها على مرأى العالم كله، ونشيدها الوطني على مسمعه.
وفي لحظة الحزن الفارقة هذه، يطلب البارزاني الحوار مع حكام بغداد، ولسان حاله أن: قولوا ما تريدون قوله، وأنا أفعل ما أريد فعله.
تفكر في واقعة "الاستفتاء" التي جاءت من حيث لم نتوقع، تضع يديك على قلبك وخوفك على مصير "العراق الواحد الموحد"، وما يمكن أن يؤول إليه بعد أن أوشكت الرياح الهابة من داخله أن تقتلعه وتحيله إلى "عراقات"، أو ربما إلى محوه من الخرائط، كما تنبأ بذلك أكثر من باحث وسياسي.
قد أواجه اتهاما بأنني أروّج ما يريده أعداء وخصوم، وقد يلاحقني عتابٌ ممن أعرف على خلفية تشاؤمي الذي قد يبدو له أزيد من المعتاد، لكن المسألة، على ما تتراءى لي لم تعد أسيرة خطط سرية أو مؤامرة مضمرة تفيض شرورا، بل أصبحت أكثر من مفضوحة، وانكشف الستر عنها مع إصرار القيادة الكردية على الاستمرار في اللعبة حتى نهايتها التي أضحت، هي الأخرى، معروفة.
نستعيد تاريخنا القريب، نعلم أن مئة عام مرت منذ تأسيس دولة الملوك، ونحن ننظر إلى "العراق الواحد الموحد" على أنه "قدس الأقداس"، غير مدركين أن جغرافية الدول قد تتعرّض للانحلال، وخرائطها قد تتغير إذا لم ترعَها يد حانية، تعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ولعلها مفارقة لافتة أن يشعر الملك المؤسس فيصل الأول، في بدايات الأعوام المئة، بخطورة ما قد تخبئه الأيام، وفي وصيةٍ ضافية، ينبه خاصته ورجال حكمه إلى أن العراق "يضم قسما كرديا أكثريته جاهلة، بينه أشخاص ذوو مطامع شخصية، يسوقونه إلى التخلص من حكومته، بدعوى أنها ليست من عنصرهم"، والمسألة قد تكبر إذا لم تجد حلا يراه هو في "إعطاء صلاحيات للألوية (المحافظات) شبيهة بمجالس الولايات في العهد العثماني، لتشويق السكان للاشتراك في الحكم"، لكأنه كان يقرأ في مفهوم "الدولة الاتحادية" التي تتيح توزيع السلطات بين المركز والولايات التابعة في إطار الدولة الواحدة، وعلى قاعدة المواطنة المتساوية التي لا تؤجج مشاعر الغبن أو الظلم أو الاضطهاد النفسي.
انقضت عقود طويلة، نسي الناس فيها وصية فيصل، وجرت خلالها مياه كثيرة، نقلت العراق من الملكية إلى جمهوريات متعاقبة، شهدت محاولات عديدة لحل المسألة الكردية، آخرها بيان آذار /مارس عام 1979 الذي أقر الحكم الذاتي للأكراد، وضمن حقوقهم القومية، كما أقام مؤسساتهم الدستورية الخاصة، إلا أن مكائد القوى الأجنبية ضد العراق، واستخدامها الشرير الورقة الكردية، وتمسّك بغداد بسلطة مركزية صارمة، وأحيانا قامعة، ألقى بظلاله على التطورات اللاحقة، وكاد أن يفرغ بيان آذار من مضمونه، حتى إذا ما تقطعت خيوط وحدتنا الوطنية، واخترق الغزاة حدودنا، استغلت القيادة الكردية الحال، وتصرّفت بذكاء محسوب، وعملت على تأسيس ما يمهد لدولةٍ لها حكومتها وجيشها وبرلمانها وعلمها ونشيدها الوطني، ولها ممثلياتها الدبلوماسية في الخارج، وتعاملاتها المباشرة مع أكثر من دولة وجهة خارج إطار الدستور الذي شاركت هي في إقراره، وفي كل هذا لم تحرّك حكومة بغداد ساكنا، واكتفت بالتلميح أو التصريح الخجول لرفع العتب، إلى أن جاءت واقعة "الاستفتاء"، لنكتشف أنها كانت غائبة أو مغيبة بفعل فاعل.
وها هو مسعود البارزاني، اللاعب الذكي، يستغل مناسبة حزينة، هي واقعة تشييع الرئيس الراحل جلال طالباني، ليلقي بورقته الأخيرة عبر "توليفة" بروتوكولية، تهدف إلى إشهار الانفصال عن العراق، وتكرس قيام الدولة أمام العالم، ينقل الجثمان من ألمانيا بطائرة عراقية تأخذ طريقها مباشرة إلى السليمانية، ولا تمر بعاصمة البلاد، ويغطى الجثمان بعلم كردستان، ويعزف النشيد الوطني الكردي، في تجاهل تام ومقصود لدولة العراق التي كان الراحل رئيسها دورتين يخضع لدستورها، ويستظل بعلمها. وإذ أفادت أسرة الراحل أنها أحضرت علم العراق، لتغطي به الجثمان، وأن سلطات أربيل ركنته جانبا، فذلك يعني أن ثمة تصميما منها على استغلال لحظة الحزن الفارقة عمدا، لإشهار ولادة دولة جديدة، لها كل مقومات الدولة، اسمها جمهورية "كردستان"، وعلمها على مرأى العالم كله، ونشيدها الوطني على مسمعه.
وفي لحظة الحزن الفارقة هذه، يطلب البارزاني الحوار مع حكام بغداد، ولسان حاله أن: قولوا ما تريدون قوله، وأنا أفعل ما أريد فعله.