عندما يتجدّد الحراك في الأردن

16 ديسمبر 2018
+ الخط -
يعود الحراك في الأردن لطرح الأسئلة والهتاف ضد الحكومات وسياساتها وموروثها، وفيما تُقر الحكومة بحق الناس في التظاهر، تقفز المطالب وتظهر الفروق، ويصعد الجدل بين النخب، فيما بقية المجتمع في حالة انشغالٍ بشأن ظروفهم وواقعهم، لكن السؤال اليوم: من أي المناطق يأتي الحراك؟ وما السبب في تمركزه في مجاميع محددة؟
إنه حراك يأتي من عمق المجتمع في الأطراف، برافعة بقايا الطبقة الوسطى، مصحوباً بالإحساس بالتفقير والتهميش ووجع البطالة، والمحتجون جُلّهم ريفيون، ينتمون إلى شرائح اجتماعية عريضة، متنوعة المنابت والخلفيات الثقافية، من دون أن يعلنوا التزامهم بأي طرف. وهذا المصدر الطرفي الهامشي، ذو الصبغة الريفية المفتوح على الرفاق المدنيين في عمّان، طالما شكل مخزون الحراك والثورات في القرن العشرين، ومنه انطلق الربيع الأردني (ذيبان، والجفر والكرك وجرش) وهو ليس جديداً، بل موروثٌ، في الدور والخطاب.

إنها الأطراف المثقلة بغياب التنمية، وتحديداً الأرياف التي طالما زوّدت الحركات الاحتجاجية بالجمهور، ولكنه (الحراك) يأتي هذه المرة منفرداً بصفاته المميزة له من نعوت، مثل"البقايا" أو "أبناء الريف" أو "شباب العشائر"، أو "أهل البلاد" أو "الهنود الحمر"، أي أنه حراك يبدو معزولاً عن الأيدولوجيات والأحزاب والنقابات، لكنه مفتوحٌ على أي شراكةٍ لا تصادره أو تغتال مطالبه الوطنية، وتفوز بالإبل عوضاً عنه.
وبمعنى أدق، يقدّم الطرف المشارك اليوم في الحركة الاحتجاجية حُجيّة الاحتجاج بحالة ليست متخيلة أو مفترضة، بل لها مظاهرها ورواسبها على أرض الواقع، بصيغ ومقولات عدّة منها: "بيع الدولة ومقدّراتها" و"استعادتها" في مقابل من يرون أن الدولة لا يمكن لها أن تظل ملتحفة بصفات التقليد والماضوية، وأن تتجه إلى التحديث والدمقرطة، أو من يرون بضرورة الالتزام بوصفات المؤسسات النقدية العالمية، ويبرّرون كلّ ما يجري من اقتراض دولي.
ويواجه الحراك المعسكريْن، المحافظ والليبرالي، ومعهم الحكومة، وكلّ هذا التباين يجعل احتمالية الانقسام على أدوار الحراك غير واردة، لكن المواجهة موحدة. وفي حال تمّ اختراقه، وجرى تطويع الهدف العام له، فإنها ستكون فقط لصالح ضرورة منح الفرصة للحكومة، كونها مالكة رؤية ومشروع أفضت صفاته إلى أنه "نهضوي"، لكن المعالجة الأخيرة مساء الخميس الماضي لمواجهة الحراك بعنف قوّضت حلم الحكومة بتوقع الانقسام الحراكي، الذي يبقى متكئاً على مقولة التهميش والإفقار وتغيير النهج، بل سوف يذهب إلى الأبعد في مطالبه، ذلك أن أي حركة احتجاجية سياسية أو اجتماعية، لا بُدّ لها من تجديد خطابها، والحصول على توافق وطني حول هدف عام لها، يتعدّى اللحظة الراهنة، ويقدم البديل المقبول، ويطرح الأسئلة المعقولة مع الاحتفاظ بحق الاحتجاج.
لكن الحالة الراهنة للحراك الأردني، على الرغم من تحدياتها وضروب مواجهتها المتنوعة من الدولة، فهي ليست ضعيفة، بل هي تستقوي يوماً بعد يوم، وتزداد شبكة المشاركة فيها والمتضامنين معها، وفي مواجهة سياسات الحكومة التي تحاول تطويق الفعل الاحتجاجي، بالترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، فإن الحراك يستثمر في الارتباك الذي يصاحب الكثير من القرارات أو الأزمات، وحتى تقدير قوته من الحكومة. وتلعب هنا شبكات التواصل دوراً فاعلاً في إيجاد بديل من الجمهور الافتراضي عن الحالة الجماهيرية الحزبية أو النقابية التي يبدو أنها لن تستطيع البقاء بعيدة عن الحراك حتى النهاية.
شعارات الحراك الأردني مليئة بالرسائل، ولم تتغير كثيرا عما طرح قبل أقل من عام، مثل "تغيير النهج" و"استعادة الدولة" و"معناش وبدناش" أو حتى المطالبة في حقوق الحيوان، أو محاسبة المفدسين، وهي مطالب دالة على وجود أكثر من فاعل، وهي تلحّ بضرورة دراسة الشعارات التي ترفع ورصدها، وقراءتها بدقة؛ فبعضها ذو سقوفٍ مرتفعة، والشعار المرفوع دال على شكل الأزمة ومرجعية الفئة المحتجة ومحتوى الرسالة التي يريد إرسالها.
لا يمكن في الحديث عن الحراك الأردني تجاهل مسألة الهوية أيضاً، والتي تطرح اليوم في أكثر من سياق. هناك خلفيات ريفية طرفية، وهناك نخبٌ مختلفة الاتجاهات، تناور على العودة إلى الشارع، لكن الشارع يبدو أنه فاقد الثقة في جميع النخب السياسية التي باتت تحاور نفسها. وهناك غياب للمتقاعدين أيضا، لكنه غيابٌ قد ينقطع في أي وقت، وقد يدخل المتقاعدون على بنية الحراك، لتعديل ميزان الشارع الاحتجاجي، أو إضافة زخم له أو وأده.

وللأسف، ليست حالة الحكومة في المستوى المريح، فالرياح لا تواتي سفنها، إذ إنها تدخل كل يوم في أزمة تلو الأزمة، وما يصدر من قراراتٍ ومواقف يُغذي فكرة انتصار الشارع. وللأسف، الوقت الذي كان يمكن أنّ يُفكر فيه رئيس الحكومة، عمر الرزاز، في كيفية إحلال التنمية ومحاربة الفقر، وتطبيق مشروعة الطموح بدولة القانون والإنتاج، بات وقتاً صعب المنال أو الحصول عليه؛ نظراً لما يتعرّض له الرجل من إرباك ودخول معارك لا داعي لها، ولعلّ هذا ما يؤسس لحالة من التردد التي أصابت الحكومة، وهي حالة لا تخدمها كثيراً في سبيل تحقيق هدفها العام، وهو التنمية والنمو وتنفيذ برنامج نهوض قابل للقياس.
ربما السؤال اليوم: إلى متى بمكن أن يبقى الرزاز رئيسا للحكومة؟ وهل ستتمكن الحكومة من مواجهة الحالة الاحتجاجية الشعبية التي تجد في النموج الفرنسي الراهن إلهاماً لها، وقد أطلقت دعوة حراكية احتجاجية باسم أصحاب "الشمغ الحمر" عبر شبكات التواصل، وخرجت مجموعة من أصحاب السترات الصفراء في قرية الطيبة شمال الأردن في محافظة إربد، وأحرقوا إطاراتٍ، كما أن الجموع التي شاركت في احتجاج الخميس الماضي أثبتت إصرارها على الاحتجاج، وإنه مفتوح على جميع الاحتمالات، كما أن الدولة تخلت عن سياسة الأمن الناعم، وهو أمر يلمح إلى التصعيد والتحول إلى مواجهة الحراك خشية تدحرج كرته.
حكومياً، يبدو التدخل في إدارة بعض الوزراء، ووقف بعض قراراتهم، على اختلاف أهميتها، هو نوع من الإرباك المدعوم بحالة نقد شعبية، تتحول إلى رأي عام افتراضي يجبر الحكومة على إلغاء بعض التعاميم والقرارات، كما حدث مع وزير الاوقاف أخيرا في تعميمه بشأن عدم إذاعة صلاة الجمعة عبر مكبرات الصوت، أو كما حدث حين تم قبول أبناء من العاملين في الجيش في الجامعات في حالات استثنائية، وتدخل رئيس الحكومة لإلغاء قرار مجلس التعليم العالي، أو ما ينتج من رأي عام غاضب بسبب تصريحات بعض الوزراء غير الموفقة، وهو ما يدخل الرزاز الموصوف بأنه شخص توافقي ومستمع جيد ونظيف مالياً في دوامة، ويحوله إلى مُدبر حلول لأزمات فريقه في مواجهة الشارع الاعتراضي. وهنا، يلحظ المتابع تحرك الأجهزة لدعم الرزاز أمام النواب، وهو ما ظهر في إقرار قانوني الضريبة والموازنة، حيث أمّنت الاتصالات عبوراً آمناً للقوانين المثيرة للشارع.
بعد التلويح بمزيد من الإصرار على الاحتجاج، التقى رئيس الحكومة بعض الحراكيين الذين أصرّوا بأنهم ليسوا من قادة الحراك، ولا يمثلونه، لكنهم جزءٌ منه، ظهر حجم القهر والغضب الذيي يسكن نفوس الناس، خوطب الرزاز بجرأة من الحاضرين، ُطلب إليه أن يكون صاحب ولاية عامة، وأن يحارب الفساد ويطلق سراح المعتقلين، لم تسقط أي من المطالب بفخ الشخصية.
في الحوار الذي لا يبدو أنه مطلوب بالنسبة للمحتجين بقدر ما هو ضرروة للحكومة، تبين أن الشباب الحاضر هم فاعلون أساسيون في ساحة ما كانت تسمّى "الأغلبية الصامتة" التي ترى اليوم زيادة الفقر والبطالة، وعاشت زمن الفساد وانهيار الإدارة العامة، ومطلوب منها أن تصبر طويلاً. عولت الحكومة في دعوتها إلى لقاء شباب الحراك مع رئيسها على انقسامه. وفي اللقاء ثبت أن الرزاز بات يعي موعد كلّ خميس الذي نجح الحراك في تثبيته ميقاتا للخروج الوطني، في العاصمة، كي يفتح المجال للأطراف، كي تخرج الجمعة بعد الصلاة في تقدير ذكي من الحراك على إدامة فعل الاحتجاج نهاية الأسبوع، حتى لا يقال إن المحتجين يعطلون قدرة العمل في الدولة.
هؤلاء المحتجون اليوم هم من أحوجتهم الحكومات العابرة، لاستدانة أجرة طريق العودة إلى البيت آخر الأسبوع، أو رهن أراضيهم واملاكهم للبنوك، هم اليوم يمارسون فعل الكلام الذي يخرق أحياناً أسماع الساسة، إذ قرّروا مغادرة موقع المتفرجين، لصالح النطق بالحق "لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس" برأيهم، فجاء نقدهم الفساد وضعف الخدمات والفقر، وسياسات الاعتقال الإداري شاخصاً، هم ليسوا عبثيين في مطالبهم، كما وصفهم أحد كبار الكتاب من محاسيب الحكومة، بل يرون أن لهم كامل الأحقية بالخروج كي يسقطوا عنهم واجب الجهاد الكلامي لحماية بلدهم، وهم يدركون أن رئيس الحكومة رجلٌ جامع للصفات الطيبة، لكنهم يريدونه رئيساً ممتلئا بالولاية، وقابضاً بيده على زمام القرارات والأفعال.
نهاية المشهد، الحراك في اتساع، والحكومة من عجر إلى آخر، واقتصاد البلاد في خطر محدق، وأن يحضر الملك عبدالله صلاة الجمعة في مسجد الملك المؤسس في منطقة العبدلي، من دون حراسات ومرافقين ويجلس في الصفوف الخلفية، معنى ذلك إعادة تعريف العلاقة بين الملك والشعب ببساطة، ومن دون وسطاء، ومحاولة لتخفيف الاحتقان الشعبي، وأن تنهار بورصة عمان بشكل مفجع فهذه من أوائل نتائج قانون الضريبة، وأن يوجه الملك الحكومة لإصدار عفو عام فهذا معناه أيضا محاولة الملك تهدئة الشارع، وأن يتم الضغط على مواقع الإعلام بضرورة تجنب التغطية المباشرة للاحتجاج، فهذا معناه أن حكومة الرجل الديمقراطي عمر الرزاز باتت هي من يُغلق المجال العام.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.