(1)
"جاي في إيه؟"، هذا هو السؤال الأول الذي ستُسألُه من باقي المساجين بمجرد أن يغلق أمين شرطة باب الحجز وراءك. في الداخل لا مجال للمراوغة، عليك أن تكون صريحاً كي لا تندم فيما بعد، "سياسة" هذه كانت الإجابة.
وبمجرد أن تنتهي من لفظ هذه الكلمة، حتى تبدأ سلسلة من النقاشات الممتدة إلى ما لا نهاية مع المحبوسين عامةً والسياسيين خصوصاً، والحقيقة أنني في الداخل لم أكن مهتماً بالمعتقلين السياسيين بقدر اهتمامي بعالم "الجنائيين" الذي كان مجهولاً بالنسبة لي، أولئك الذين ننادي بحقوقهم فيعتدون علينا من دون سابق معرفة؟ يرتفع هتافنا من أجل حقوقهم فيزداد تنكيلهم بنا، قررت أن أجلس معهم، أن أعرفهم عن قرب، محاولاً وضع يدي على مكمن الخلل في علاقتنا معهم. كنت أؤمن تماماً أن هذه هي الفرصة المثلى لخوض هذه التجربة، وأنه من الصعب تكرارها.
(2)
بعد أحاديث ومناقشات وجدالات طويلة امتدت أسابيع، أعتقد أنني قد توصلت إلى جزء كبير من أسباب العلاقة المتوترة بين معسكر الثورة أو الواقفين ضد الأنظمة المتعاقبة في الثلاث سنوات الماضية ومع هذه الشريحة من المجتمع.
وكان السبب الرئيسي في هذا التوتر الذي يصل حدَّ العداء، هو أننا قد قدمناهم كقرابين للداخلية تستعيد على جثثهم هيبتها المفقودة مع البدل الميري التي اختفت، ليلة الثامن والعشرين من يناير، أي أننا أشعلنا الفتيل الأول للثورة ثمّ "صَدّرناهم" في مواجهة الداخلية لأنهم الوحيدون القادرون على هذه المواجهة الدموية عالية التكلفة، والتي لا يقدر عليها "أولاد الناس اللي زينا"، كما قال لي أحدهم، ناهيك عن جهلنا بها بالأساس، وبعد أن انتصروا عليهم ومرمغوا أنف الدولة في الوحل ومهدوا لنا الطريق للانتصار، أعلنّا أن ثورتنا سلمية وأن العنف لا يعرف إليها طريقاً، وأن من قاموا بهذه الأفعال البطولية مجرد "بلطجية" أو على أقل تقدير غضضنا الطرف عن وصفهم المستمر بأنهم "بلطجية". هنا كانت النقطة الفارقة عندهم، فشعورهم بالخيانة من طرفنا ازداد مع بدء الداخلية المحملة بعار يناير في العودة راجيةً الثأر، حينها بدأت الداخلية في التنكيل بهم دون ضجة كبيرة، "يا باشا إحنا معروفين وكنا شغالين معاهم غصب عننا، ويعرفوا يجيبونا من بيوتنا زي الخرفان إنما إنتوا كلكو عالنت ومحدش يقدر يلمسكوا"، هكذا قال لي آخر.
لكن لأن الداخلية قررت أن تكون أكثر حكمة من ذي قبل، فبعد أن نكلت بهم أعادتهم إلى أحضانها مرةً أخرى في انتظار يومٍ تلتقي فيه المصالح، والحقيقة أن شعورهم بالغدر من جانبنا إضافة إلى عجز الثورة عن تحقيق أي إنجاز اقتصادي يمسهم مباشرة عزز شعورهم، أن تضحياتهم لا قيمة لها، وعزز، أيضاً، مخاوفهم في أننا استخدمانهم كمجرد "كوبري" لتحقيق أهدافنا، مما صبّ في النهاية في فائدة معسكر الثورة المضادة.
(3)
أخيراً، كان الكلام واضحاً، نعم أصبح لدينا ثارات مع الحكومة والنظام الحالي ونريد الانتقام منهما، لكننا لن نكرر خطأ يناير، ولن نبدأ هذه المرة المواجهة، عليكم أنتم تصدر المشهد والدخول في المعركة أولاً لتعرفوا فداحة الثمن، فتحافظوا على مكتسباتكم، ثم نحن من ورائكم بعد ذلك، أما أن ندخل نحن في مواجهة مباشرة ضد الدولة، حالياً، فهذا من سابع المستحيلات.
مجملاً، قد يكون كثيرٌ من كلامهم مردودٌ عليه، لكننا في النهاية تغافلنا عنهم فعلاً وأخرجناهم من معادلة الثورة مبكراً، ولم نؤكد أنهم جزء لا يتجزأ من معسكر الثورة، وأنهم ليسوا قطاع طرق وبلطجية، كما كان يتم وصفهم ليل نهار، فأصبحوا فريسة للداخلية من طرف وللمجتمع من طرفٍ آخر، وفي النهاية تلاقت المصالح، أخيراً، وتمترسوا في الخندق نفسه معهم، وأصبح معسكر الثورة وحيداً لا سيف ولا درع له.
(مصر)
"جاي في إيه؟"، هذا هو السؤال الأول الذي ستُسألُه من باقي المساجين بمجرد أن يغلق أمين شرطة باب الحجز وراءك. في الداخل لا مجال للمراوغة، عليك أن تكون صريحاً كي لا تندم فيما بعد، "سياسة" هذه كانت الإجابة.
وبمجرد أن تنتهي من لفظ هذه الكلمة، حتى تبدأ سلسلة من النقاشات الممتدة إلى ما لا نهاية مع المحبوسين عامةً والسياسيين خصوصاً، والحقيقة أنني في الداخل لم أكن مهتماً بالمعتقلين السياسيين بقدر اهتمامي بعالم "الجنائيين" الذي كان مجهولاً بالنسبة لي، أولئك الذين ننادي بحقوقهم فيعتدون علينا من دون سابق معرفة؟ يرتفع هتافنا من أجل حقوقهم فيزداد تنكيلهم بنا، قررت أن أجلس معهم، أن أعرفهم عن قرب، محاولاً وضع يدي على مكمن الخلل في علاقتنا معهم. كنت أؤمن تماماً أن هذه هي الفرصة المثلى لخوض هذه التجربة، وأنه من الصعب تكرارها.
(2)
بعد أحاديث ومناقشات وجدالات طويلة امتدت أسابيع، أعتقد أنني قد توصلت إلى جزء كبير من أسباب العلاقة المتوترة بين معسكر الثورة أو الواقفين ضد الأنظمة المتعاقبة في الثلاث سنوات الماضية ومع هذه الشريحة من المجتمع.
وكان السبب الرئيسي في هذا التوتر الذي يصل حدَّ العداء، هو أننا قد قدمناهم كقرابين للداخلية تستعيد على جثثهم هيبتها المفقودة مع البدل الميري التي اختفت، ليلة الثامن والعشرين من يناير، أي أننا أشعلنا الفتيل الأول للثورة ثمّ "صَدّرناهم" في مواجهة الداخلية لأنهم الوحيدون القادرون على هذه المواجهة الدموية عالية التكلفة، والتي لا يقدر عليها "أولاد الناس اللي زينا"، كما قال لي أحدهم، ناهيك عن جهلنا بها بالأساس، وبعد أن انتصروا عليهم ومرمغوا أنف الدولة في الوحل ومهدوا لنا الطريق للانتصار، أعلنّا أن ثورتنا سلمية وأن العنف لا يعرف إليها طريقاً، وأن من قاموا بهذه الأفعال البطولية مجرد "بلطجية" أو على أقل تقدير غضضنا الطرف عن وصفهم المستمر بأنهم "بلطجية". هنا كانت النقطة الفارقة عندهم، فشعورهم بالخيانة من طرفنا ازداد مع بدء الداخلية المحملة بعار يناير في العودة راجيةً الثأر، حينها بدأت الداخلية في التنكيل بهم دون ضجة كبيرة، "يا باشا إحنا معروفين وكنا شغالين معاهم غصب عننا، ويعرفوا يجيبونا من بيوتنا زي الخرفان إنما إنتوا كلكو عالنت ومحدش يقدر يلمسكوا"، هكذا قال لي آخر.
لكن لأن الداخلية قررت أن تكون أكثر حكمة من ذي قبل، فبعد أن نكلت بهم أعادتهم إلى أحضانها مرةً أخرى في انتظار يومٍ تلتقي فيه المصالح، والحقيقة أن شعورهم بالغدر من جانبنا إضافة إلى عجز الثورة عن تحقيق أي إنجاز اقتصادي يمسهم مباشرة عزز شعورهم، أن تضحياتهم لا قيمة لها، وعزز، أيضاً، مخاوفهم في أننا استخدمانهم كمجرد "كوبري" لتحقيق أهدافنا، مما صبّ في النهاية في فائدة معسكر الثورة المضادة.
(3)
أخيراً، كان الكلام واضحاً، نعم أصبح لدينا ثارات مع الحكومة والنظام الحالي ونريد الانتقام منهما، لكننا لن نكرر خطأ يناير، ولن نبدأ هذه المرة المواجهة، عليكم أنتم تصدر المشهد والدخول في المعركة أولاً لتعرفوا فداحة الثمن، فتحافظوا على مكتسباتكم، ثم نحن من ورائكم بعد ذلك، أما أن ندخل نحن في مواجهة مباشرة ضد الدولة، حالياً، فهذا من سابع المستحيلات.
مجملاً، قد يكون كثيرٌ من كلامهم مردودٌ عليه، لكننا في النهاية تغافلنا عنهم فعلاً وأخرجناهم من معادلة الثورة مبكراً، ولم نؤكد أنهم جزء لا يتجزأ من معسكر الثورة، وأنهم ليسوا قطاع طرق وبلطجية، كما كان يتم وصفهم ليل نهار، فأصبحوا فريسة للداخلية من طرف وللمجتمع من طرفٍ آخر، وفي النهاية تلاقت المصالح، أخيراً، وتمترسوا في الخندق نفسه معهم، وأصبح معسكر الثورة وحيداً لا سيف ولا درع له.
(مصر)