عندما تحتفل إسرائيل بخلاصها المسيحاني

16 مايو 2018
المراسم جرت في أجواء مسيحانية صهيونية غريبة (Getty)
+ الخط -
انشغلت فلسطين المنكوبة منذ 70 عاماً أمس الثلاثاء بوداع وتشييع شهدائها الواحد والستين الذين سقطوا أول من أمس تحت سمع وبصر العالم، العربي والغربي. بل شارك ممثلو 30 دولة، بينما كانت المذبحة مستمرة، في الاحتفال الأميركي الصهيوني في القدس المحتلة، في افتتاح سفارة الولايات المتحدة، ضمن أجواء أقرّ مراقبون وصحافيون في إسرائيل بأنها أجواء مسيحانية صهيونية غريبة، رهنت العلاقات الأميركية الإسرائيلية وأدخلتها نفقاً مسيحانياً جديداً لم تعهده العلاقات بين دولة الاحتلال وبين القوة الاستعمارية الأولى في العالم على مدار السبعين سنة الماضية، أي منذ قامت دولة الاحتلال على أنقاض شعب فلسطين على أرض فلسطين.

ولم يكن أدل على أن النكبة مستمرة حتى بعد سبعين عاماً على سلب فلسطين من أن تتشح فلسطين بالسواد حداداً على أرواح أبنائها، فيما العالم العربي يشيح بوجهه عنها، وينتقد في أحسن حالاته "استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين"، كما جاء على لسان النظام المصري، أو السكوت المجلجل لبقية الدول العربية المنشغلة أصلاً بقمع شعوبها واضطهادها.



رسمت فلسطين المقاومة في غزة، والمواجهات المتفرقة والتظاهرات الخجولة في أراضي 48، صورة مشهد النكبة المتواصلة، شعب حي يقارع احتلالاً استعمارياً إحلالياً، ولم يعد من متسع بعد الآن للاختباء وراء عبارات الواقعية السياسية لتشويه الحقيقة التاريخية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في أرضه. شعب يقتل وتطلق النيران على أبنائه فيما القاتل يتبجّح تحت حماية القوة العسكرية الأولى في العالم بأن يوم القتل هذا هو يوم رائع للسلام، ثم يضيف أن السلام لا يمكن أن يتم إلا على أسس الحقيقة والعدالة.

هذا هو واقع النكبة الفلسطينية اليوم، وهذا هو دليل استمرار فصولها علناً، هذه المرة، ومن دون حاجة من القاتل إلى التستر على جرائمه، بل هو يفاخر بها على رؤوس الأشهاد، وسط أجواء من الحبور والاحتفاء بفتح سفارة الولايات المتحدة، في مشهد يعيدك، شئت أم أبيت، إلى مشاهد المسلسلات التاريخية والسينمائية الهوليوودية لحفلات كبار الضباط النازيين وغيرهم وهم يتبادلون أطراف الحديث وآخر أنباء الميادين هادئة، بينما تعمل آلة القتل الهمجية فعلها في قصف الناس والمدنيين العزل، فيما يتحدث القتلة عن الأخلاق الرفيعة والنبيلة لجنودهم الحضاريين.
لم يكن المشهد في فلسطين سيئاً وقاتماً كما كان في الأمس، وأمس الأول، شهداء يتساقطون تباعاً بوتيرة عالية، تحت ستار من الدخان، جنائز تشيع الشهداء من الأطفال والشباب والرجال يقابلها عجز عربي فاضح، أو هو تواطؤ عربي قاتل، في إحكام الحصار تارة، وفي تجاهل دعوات الاستغاثة تارة أخرى، ثم فجأة بفتح بعض الأثرياء محافظهم ليرموا بقليل من فتات مالهم لتفعيل مستشفى ميداني هنا وشراء طرد دوائي هناك، ولا أحد يسأل عن القاتل أو يتوعّد حتى بمحاولة تقديمه إلى المحاكمة، أو قل مجرد رفع شكوى دولية في المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب.
لم تتوقف النكبة أمس، وهي لن تتوقف، وكل ما سيكون هو ربما ضغوط دولية، لا مجال للحديث عن ضغوط أو غضب عربي رسمي، يؤدي إلى نوع من الانفراج، وربما يفضي إلى صيغة ما لتحريك عمليات لإعادة إعمار غزة، وتحسين ظروف معيشة أهل القطاع، وبدء عمليات تحقيق تتقصّى الحقائق، وكأن ما حدث أمس الأول بحاجة إلى تحقيق، فدعوات التحقيق الدولية انطلقت مشوّهة محكومة بالنفاق لدولة الاحتلال وحق المحتل "بالدفاع عن حدوده"، مقابل حق الواقع تحت الاحتلال، من سُلب وطنه وطرد من أرضه، بالتظاهر السلمي.
في المقابل فإن دولة الاحتلال تواصل غيها وعنجهيتها في تهديد قادة "حماس"، بالتصفية الجسدية مثلاً، وباتهام الفلسطينيين أنفسهم بالمسؤولية عن سقوط أبنائهم، وهي تواصل نشر قوات جيشها على امتداد الحدود الشرقية لقطاع غزة، مع استمرار حالة تأهب قصوى وتهديدات متواترة باستخدام مزيد من القوة القاتلة، وذلك بالركون إلى الحماية المطلقة التي تمنحها لها الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس ترامب.
المشهد الفلسطيني في قطاع غزة مرشح إلى مزيد من التصعيد، في ظل السعي الإسرائيلي إلى تفجر مواجهة عسكرية تعدّ لها وقد تفضي في حال انفجارها إلى ضغوط دولية وعربية على قيادة حماس، للوصول إلى اتفاق تهدئة طويل الأمد، وبما يمنح الاحتلال مزيداً من الوقت لترتيب أوراق صفقة القرن.