يحلّ عيد العمّال هذا العام حاملاً معه مزيداً من الأعباء والصعاب على القوى العاملة المصرية، في ظلّ الوباء العالمي وما ألحقه من أضرار على صعد مختلفة رفعت نسب البطالة والفقر والغلاء في البلاد. وتنقل "العربي الجديد" قصص عمّال مصريين في زمن كورونا، قاوموا مخاوف الإصابة وربّما الموت في مقابل تدبير لقمة عيشهم. بالنسبة إلى كثيرين، فإنّ تلك اللقمة أولوية مقارنة بالسلامة.
عزام، عامل مصري في إحدى الشركات في القاهرة، يستيقظ فجراً ويركب دراجته النارية ويتوجّه إلى محطة القطار من قريته في إحدى محافظات الوجه البحري، ثمّ يستقل المترو إلى حيّ المعادي جنوبي القاهرة. يقول عزام: "أعيل أربعة أولاد وأعمل في شركة قطاع خاص"، متسائلاً "من أين أطعمهم إن تخليت عن العمل أو حاولت أن أشعر أنّني إنسان؟ بالتالي لا بدّ لي من الاستمرار في العمل، فالأعمار بيد الله... كلّها موتة". يتّفق معه في وجهة نظرة تلك أحمد حسان، وهو موظف في القطاع الخاص كذلك. يقول: "نحن نضحّي من أجل أولادنا في تلك الظروف ونستقلّ المترو وسط الزحام غير مبالين بخطر الفيروس. فملازمتنا منازلنا ستؤدّي إلى قطع أرزاقنا وقوت الأولاد. من جهتي، لديّ أربعة، بنتان وابنان في مراحل تعليمية مختلفة وكلّهم في حاجة إلى المال".
بدوره، يؤكد العامل أحمد علي أنّ "ملازمتي البيت بسبب كورونا غير مجدية، فالظروف الاقتصادية تجبرنا على العمل"، مضيفاً بصراحة "نحن لا نبالي بالتحذيرات. كده كده أنا ميّت... فلا فلوس ولا حياة. أمّا الأولاد فظروفهم صعبة والتعليم متردٍّ وأضطر إلى شراء البحث لاثنين منهم في المرحلة الابتدائي والإعدادي بالمال". أمّا محمد عبد الرحمن، موظف في القطاع الخاص، فلا يخفي غضبه من استمرار الوضع على حاله، قائلاً: "سنموت من الجوع أنا وأسرتي المكوّنة من خمسة أفراد".
والغضب الناتج عن الخوف ينتاب كذلك أصحاب الأعمال الحرة، إذ يقول سيد عبد العزيز وهو صاحب متجر، إنّ "الخوف ليس فقط من اليوم أو من غدٍ، بل الخوف هو من أن تطول بنا هذه الأزمة ونفقد مصادر دخلنا". ويلفت إلى أنّ "انقطاع الدخل مع حلول شهر رمضان والتورّط في عدد من الالتزامات التي بدأت بتراكم الإيجارات والفواتير المختلفة، سيؤديان إلى ضغوط ومشاكل اقتصادية واجتماعية". ويوضح عبد العزيز أنّ "هذه الأزمة أدّت إلى تراكم الديون لدى مصريين كثيرين، خصوصاً الغلابة، بسبب الالتزامات العائلية. وهكذا صار القلق قلقَين، إمّا الإصابة بالفيروس والموت ربّما من جرّائه وإمّا الموت من الجوع، وفي كلتا الحالتَين المواطن خسران".
من جهتها، أمّ محمود من حيّ بولاق بمحافظة القاهرة تعمل في الخدمة المنزلية، تقول: "عندي ثلاثة أولاد ولا أستطيع التوقف عن العمل. فزوجي متوفّ، وعليّ إيجارات ومصاريف. أنا مسؤولة عن أسرة ولا أستطيع التوقّف عن العمل. إذا لم أجد عملاً في أحد البيوت، من أين نأكل أنا وأولادي؟ ما باليد حيلة، سأظلّ أعمل في ظلّ كورونا وغيره". في المقابل، أُجبرت بدرية، أم أحمد، على ترك عملها. فالمرأة الأربعينية وهي أمّ لثلاثة أولاد في المدارس، كانت تعمل في أحد مصانع الملابس الجاهزة في وسط القاهرة، ومع بدء تنفيذ حظر التجوّل عمد ربّ عملها إلى وقفها عن العمل ومجموعة أخرى من العاملات بحجة "الظروف الصعبة". تقول بدرية: "زوجي هو الآخر أوقفه عن العمل صاحب المحل حيث يشتغل، وليس لدينا أيّ دخل نعيش منه. في الأساس، بالكاد كان دخلي ودخله يكفياننا. الحمد لله أنّ المدارس توقّفت، وإلا من أين كنّا سنأتي بمصاريفها".
أمّا عيد فيخبر أنّه كان يعمل في إحدى الشركات الخاصة في القاهرة، لكنّ صاحبها أوقف العمل. يضيف: "عندي ثلاثة أطفال، ونحن جئنا إلى هنا من إحدى محافظات الصعيد. لكنّنا اليوم لم نعد قادرين على العيش، فاضطررت إلى التسوّل. أقف أمام المخابز، لعلّ أحدهم يعطف عليّ ببعض أرغفة. كذلك أفعل أمام المطاعم للحصول على بعض الأكل، ثمّ أعود إلى أولادي لأطعمهم". ويؤكد: "في مصر إن لم تمت من جرّاء كورونا ستموت من الجوع. ملايين الناس لا يملكون قوت يومهم والدولة لا تساعد أحدا. قصدت الشؤون الاجتماعية فطلبوا تسجيل بياناتي على الكمبيوتر وأنا لا أعرف كمبيوتر ولا غيره". أمّا علي فيقول: "أنا وأمي وأخي توقفنا عن العمل مرّة واحدة. أمّي كانت تعمل في الخدمة في إحدى شركات السياحة، وأخي في مقهى وأنا في مطعم. في البداية كان لدينا بعض المال المتبقيّ، بعد ذلك صرنا نبحث في جيوب ملابسنا لعلّنا نجد خمسة جنيهات نسيناها فيها. وفي النهاية اضطرتنا الظروف إلى الاقتراض من بعض الأقارب، لكنّ الحال من بعضه".
في سياق متصل، قبل نحو أسبوعَين، كُشف عن إصابة عشرات الأطفال في إحدى محافظات صعيد مصر، وهؤلاء من الذين يُعدّون ضحية عمالة الأطفال واستغلال أرباب العمل لهم وإجبارهم على القيام بأعمال غير مناسبة لأعمارهم. وهذا أمر شائع في قرى الصعيد، نظراً إلى الظروف الاقتصادية المتردية وحالة الفقر التي تعيشها آلاف الأسر. فالآباء يضطرون إلى إرسال صغارهم إلى العمل بهدف الحصول على مصادر دخل إضافية تساعد في مصروف الأسرة وتأمين أبسط متطلبات الحياة المتمثلة في الطعام. ويُحرمون بالتالي من طفولتهم.
تعليقاً على عمالة الأطفال، يقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية بالقاهرة، سعيد صادق، لـ"العربي الجديد"، إنّ "زيادة عمالة الأطفال في القرى تأتي نتيجة عدم الاهتمام بالمستوى التعليمي وارتفاع حدّة الفقر بالإضافة إلى دخل الأسرة المتدني، وذلك على الرغم من حظر الدستور تشغيل الأطفال قبل تجاوزهم سنّ إتمام التعليم الأساسي". ويطالب صادق الدولة بـ"التدخّل للقضاء على عمالة الأطفال من خلال التوعية المجتمعية وتوضيح ما تنطوي عليه من انتهاكات ومخاطر. فهي تُعَدّ انتهاكاً لحقوقهم وأشبه بالاتجار فيهم، وتؤدّي في النهاية إلى تشوه النشء فكرياً". ويصف صادق الأطفال العمّال بأنّهم "قنابل موقوتة ينتج عنها زيادة في نسبة الجريمة. فالطفل في النهاية سيصير عدوانياً بناء على شعور داخلي بأنّه ضحية للمجتمع". ويسأل: "أين دور المجلس القومي للطفولة من عمالة الأطفال؟"، مشدداً على أنّ "مرحلة الطفولة تحتاج إلى الأمن الصحي والنفسي والاجتماعي والرعاية والتعليم الجيد، وليس تحمّل المسؤولية وضغوط العمل وضغوط الحياة، خصوصاً أنّ بعض الأطفال يتحملون أعباء ومسؤوليات أسر بأكملها وهو أمر أكبر بكثير من سنّهم".
من جهته، يقول الباحث في المركز القومي للبحوث الاجتماعية، سيد إمام، لـ"العربي الجديد"، إنّ "إصابة أكثر من 40 طفلاً في مدينة واحدة من مدن الصعيد في خلال عملهم يشير إلى حجم الفقر الموجود في محافظات الصعيد وتوقّف الحياة وصعوبتها، وهو ما يجعل الآباء يضحّون بفلذات أكبادهم غير مبالين بحياتهم وظروفهم الصحية. والأطفال من جهتهم يضطرون إلى تحمّل أعباء العمل للمساعدة في توفير الاحتياجات الأساسية للأسرة رغم صغر سنّهم". ويلفت إمام إلى أنّ "أطفال القرى يعانون (في الأساس) ظروفاً صحية خطيرة ونقصاً في مناعتهم، وهم معرّضون إلى الإصابة بعشرات الأمراض الخطيرة نتيجة أوضاعهم الاجتماعية"، مطالباً بـ"ضرورة سنّ تشريعات صارمة تطبّق على أرض الواقع لحماية الأطفال من الإيذاء والاستغلال في سوق العمل. ولا بدّ من عقوبات رادعة تحمي الطفل من الدفع به إلى العمل ورعاية أسرته الفقيرة، لا سيّما التي تعيش تحت خط الفقر ويصعب عليها تحمّل تكاليف الحياة".