سيد البدايات كان عمر حجو، هو المؤسس والرائد والشاهد في الحركة الفنية السورية، وباسمه سُجلت تجربة "مسرح الشوك"، بوصفه التجربة المؤسسة لأنماط درامية عدة تبدأ من المسرح السياسي في سورية، ولا تنتهي عند ما عرف باللوحات الانتقادية الاجتماعية الساخرة في التلفزيون.
حبّ الفنّ العفوي، لدرجة التضحية بكل شيء من أجل سموه، هو أكثر ما ميز تجربة عمر حجو. حب تبرعم في حيه الشعبي في حلب، وكبر على خشبات المسارح وأمام الكاميرات في السينما والتلفزيون، يختصره الفنان الراحل بكلمة واحدة، هي العطاء، ثم العطاء حتى لو ارتضيت العيش في الصف الثاني من النجومية خلف من تقدمك من نجوم الفن لأنك تحبه أو تحب ما ينجزه وتؤمن به.
هكذا كان عمر حجو طيلة العقود الستة من عمر تجربته في الفن، وقد ارتضى أن يقف، وهو مؤسس مسرح الشوك، إلى جانب وخلف نجوم هذا المسرح، رغم أنّ عُرف مؤسسي أي مشروع، لا سيما في الفن والسياسة، التربع في الصدارة حتى الموت! من سوى عمر حجو فعلها؟ لا أحد.
الحديث عن علاقة الحب والفن في تجربة حجو، ليس ترفاً كلامياً في رثاء فنان كبير، فمن يتتبع تجربة الراحل يدرك أنّه ما كان ليسير في مشوار الفن هذا لولا هذا الحب. فعمر الذي لم تهيئ له ظروفه التعلم في المدارس لتجاوزه السن القانونية، فاكتفى منها بشهادته الابتدائية، بنى علاقته بالفن عبر دفق من العاطفة تجاه الناس من جهة، وتجاه خشبة المسرح من جهة أخرى.
أما الناس، فهم أبناء الأحياء الشعبية في مدينته حلب، الذين نشأ وترعرع بينهم فكانوا الملهم لحكايته. أما المسرح، فهو ذلك الفضاء المفتوح على البوح والتعبير، ترى هل كان بوسع المرء أن يتصور أن عمر حجو يمكن أن يفجر شيئاً على هذه الخشبة، بوحاً وتعبيراً، بعيداً عن همّ ناسه وأوجاعهم؟
ينقّل عمر حجو فؤاده على خشبة المسرح، حيث شاء هواه للناس، من مسرح البانتوميم، مروراً بالمسرح القومي، فتجربته الرائدة في "مسرح الشوك" الذي يعد أهم تجربة سورية في المسرح الانتقادي السياسي الساخر في وقتها- أواخر الستينيات وربما حتى الآن، وعبر تجربته الجريئة هذه، كان حجو يعيد إنتاج علاقته بالناس ويطرح همومهم ويتكلم بلسان حالهم.
تألفت عروض "مسرح الشوك" من مجموعة من المشاهد المسرحية لا يتجاوز الواحد منها مدة الخمس دقائق. استعان لتجسيدها معه على خشبة المسرح بعدد من الوجوه التمثيلية، عملوا معه دون أي أجر، كان من بينهم ياسين بقوش وعبد السلام الطيب ومظهر الحكيم وايلي غريبة.
قدموا عرضهم الأول في المركز الثقافي الروسي تحت اسم مسرح "الشوك"، وكان الممثلون (على نحو ثنائي أو أكثر) يقفون خلف ميكرفون أو أكثر ليدور حوار بينهم يعتمد على المفارقة المغرقة بجرأتها وقدرتها على اجتراح الضحكة من اليومي المعاش.
وإن كان هذا الشكل الإخراجي فرضته الإمكانات التقنية آنذاك، إلّا أنّه لا يمكن إلاّ أن ننظر إلى التجربة بوصفها العمل التأسيسي للمسرح السياسي في سورية، الذي تجلى بداية بمسرح الثنائي (دريد لحام- محمد الماغوط)، كما كان "مسرح الشوك" الملهم أيضاً لدراما تلفزيونية سورية جريئة، ميزت تجربتها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وقد لامست الواقع بلا مجاملة، واخترقت (نسبياً) جدار الخوف والممنوع، لدرجة أغضبت السلطات منها أحياناً.
تلك التجربة المسرحية الغنية، أي مسرح الشوك، كان من شأنها أن تؤسس لتاريخ عريض لأي فنان، بل وتمنحه مساحة خاصة في التنظير الكلامي وسرد بطولات وإنجازات، وكان بوسع عمر حجو أن يفعل ذلك دون تكلف، فيرويها ويصدقها الناس، إلا أن عمر حجو كان كعادته، يفترق عن سواه من نجوم الفن، فيحيل نرجسية النجومية فيه كفنان، إلى أيقونة من تواضع العلماء والأنبياء، وها هو يروي تجربته في إحدى الندوات، فيختصرها بالقول: "أنا عمر حجو... مواليد مدينة حلب، أحمل الشهادة الابتدائية، ليس لدي أي علم، درست في حارتي، وكل ما شاهدته فيها جسدته على المسرح، وإذا سألتموني عن شكسبير وغيره فلا أعرف أحداً منهم....".
من بوابة المسرح سيطل الفنان الراحل عمر حجو على جمهور التلفزيون، ولو قُدّر لنا أن نجمع ملامح الشخصيات التي قدمها في الدراما التلفزيونية، لحصلنا في النهاية على الملامح الكاملة لأبناء الوطن البسطاء، أولئك الذين تُبنى على أكتافهم الأوطان زمن السلم، ويُتركون زمن الحرب في الصف المتقدم من المعركة ليكونوا شهداء.
في كل مرة يلملم عمر حجو ما أوتي من طيبة وخير ليبثّهما في شخصياته، وما كان كثيراً يقدم أدوار الشر، وحين يقدمها كان يسكبها في قالب كوميدي، ليكسب فضيلة إسعاد الناس على الأقل، كونه لم يستطع أن يحاكي الجزء الطيب فيهم.
العفوية في دخول الفن وعشقه الذي عاشه عمر حجو، تجسدا عفوية في الأداء، ثمّة أدوات تعبير تخصه، تعتمد لغة الجسد أكثر من كونها تتكئ على الحوار، فكانت ارتعاشات يديه الغاضبة، اهتزاز وجنتيه وجفنيه في وجه، حركة جسده التي تتماهى مع حالة شخصيته، لتقول ما لم يقله لسانه.
كل ذلك كان يرسم شكلاً في الأداء التمثيلي لعمر حجو، لو امتلكه سواه لأحاله تنظيراً إلى فهمه الخاص لمنهج ستانسلافيسكي في فن التمثيل وإعداد الممثل، إلا أن عمر حجو الذي لم يعرف هذا الأخير ولا سواه من رواد المسرح ومنظّريه... كان يحيل أداءه وفنه دوماً إلى ما تعلمه من الناس في حارته، ومن خشبة المسرح التي كان يجلس قبالتها، كما يجلس تلميذ أمام معلمه، ليتعلم منها وتثير الساكن في قلبه وفكره.
رغم سنوات العمل الطويلة، كان الفنان الكبير عمر حجو يرغب في سنوات أكثر من ممارسة الفن، وحده الفن كان يمده بالقوة، حتى بدا ابن الثمانين عاماً في آخر مسلسلاته شاباً يتقمص دور الشيخوخة.
من يعرف عمر حجو.. يعرف أن لا شيء أتعبه في دنياه مثل الحب الذي صنعه لمن حوله، ومن يعرف عمر حجو.. يعرف أن لا شيء يمسح عنه تعب هذا الحب إلا الحب ذاته.. إلّا أن الحب بات عملة صعبة في زمننا هذا، زمن الموت العبثي.
حبّ الفنّ العفوي، لدرجة التضحية بكل شيء من أجل سموه، هو أكثر ما ميز تجربة عمر حجو. حب تبرعم في حيه الشعبي في حلب، وكبر على خشبات المسارح وأمام الكاميرات في السينما والتلفزيون، يختصره الفنان الراحل بكلمة واحدة، هي العطاء، ثم العطاء حتى لو ارتضيت العيش في الصف الثاني من النجومية خلف من تقدمك من نجوم الفن لأنك تحبه أو تحب ما ينجزه وتؤمن به.
هكذا كان عمر حجو طيلة العقود الستة من عمر تجربته في الفن، وقد ارتضى أن يقف، وهو مؤسس مسرح الشوك، إلى جانب وخلف نجوم هذا المسرح، رغم أنّ عُرف مؤسسي أي مشروع، لا سيما في الفن والسياسة، التربع في الصدارة حتى الموت! من سوى عمر حجو فعلها؟ لا أحد.
الحديث عن علاقة الحب والفن في تجربة حجو، ليس ترفاً كلامياً في رثاء فنان كبير، فمن يتتبع تجربة الراحل يدرك أنّه ما كان ليسير في مشوار الفن هذا لولا هذا الحب. فعمر الذي لم تهيئ له ظروفه التعلم في المدارس لتجاوزه السن القانونية، فاكتفى منها بشهادته الابتدائية، بنى علاقته بالفن عبر دفق من العاطفة تجاه الناس من جهة، وتجاه خشبة المسرح من جهة أخرى.
أما الناس، فهم أبناء الأحياء الشعبية في مدينته حلب، الذين نشأ وترعرع بينهم فكانوا الملهم لحكايته. أما المسرح، فهو ذلك الفضاء المفتوح على البوح والتعبير، ترى هل كان بوسع المرء أن يتصور أن عمر حجو يمكن أن يفجر شيئاً على هذه الخشبة، بوحاً وتعبيراً، بعيداً عن همّ ناسه وأوجاعهم؟
ينقّل عمر حجو فؤاده على خشبة المسرح، حيث شاء هواه للناس، من مسرح البانتوميم، مروراً بالمسرح القومي، فتجربته الرائدة في "مسرح الشوك" الذي يعد أهم تجربة سورية في المسرح الانتقادي السياسي الساخر في وقتها- أواخر الستينيات وربما حتى الآن، وعبر تجربته الجريئة هذه، كان حجو يعيد إنتاج علاقته بالناس ويطرح همومهم ويتكلم بلسان حالهم.
تألفت عروض "مسرح الشوك" من مجموعة من المشاهد المسرحية لا يتجاوز الواحد منها مدة الخمس دقائق. استعان لتجسيدها معه على خشبة المسرح بعدد من الوجوه التمثيلية، عملوا معه دون أي أجر، كان من بينهم ياسين بقوش وعبد السلام الطيب ومظهر الحكيم وايلي غريبة.
قدموا عرضهم الأول في المركز الثقافي الروسي تحت اسم مسرح "الشوك"، وكان الممثلون (على نحو ثنائي أو أكثر) يقفون خلف ميكرفون أو أكثر ليدور حوار بينهم يعتمد على المفارقة المغرقة بجرأتها وقدرتها على اجتراح الضحكة من اليومي المعاش.
وإن كان هذا الشكل الإخراجي فرضته الإمكانات التقنية آنذاك، إلّا أنّه لا يمكن إلاّ أن ننظر إلى التجربة بوصفها العمل التأسيسي للمسرح السياسي في سورية، الذي تجلى بداية بمسرح الثنائي (دريد لحام- محمد الماغوط)، كما كان "مسرح الشوك" الملهم أيضاً لدراما تلفزيونية سورية جريئة، ميزت تجربتها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وقد لامست الواقع بلا مجاملة، واخترقت (نسبياً) جدار الخوف والممنوع، لدرجة أغضبت السلطات منها أحياناً.
تلك التجربة المسرحية الغنية، أي مسرح الشوك، كان من شأنها أن تؤسس لتاريخ عريض لأي فنان، بل وتمنحه مساحة خاصة في التنظير الكلامي وسرد بطولات وإنجازات، وكان بوسع عمر حجو أن يفعل ذلك دون تكلف، فيرويها ويصدقها الناس، إلا أن عمر حجو كان كعادته، يفترق عن سواه من نجوم الفن، فيحيل نرجسية النجومية فيه كفنان، إلى أيقونة من تواضع العلماء والأنبياء، وها هو يروي تجربته في إحدى الندوات، فيختصرها بالقول: "أنا عمر حجو... مواليد مدينة حلب، أحمل الشهادة الابتدائية، ليس لدي أي علم، درست في حارتي، وكل ما شاهدته فيها جسدته على المسرح، وإذا سألتموني عن شكسبير وغيره فلا أعرف أحداً منهم....".
من بوابة المسرح سيطل الفنان الراحل عمر حجو على جمهور التلفزيون، ولو قُدّر لنا أن نجمع ملامح الشخصيات التي قدمها في الدراما التلفزيونية، لحصلنا في النهاية على الملامح الكاملة لأبناء الوطن البسطاء، أولئك الذين تُبنى على أكتافهم الأوطان زمن السلم، ويُتركون زمن الحرب في الصف المتقدم من المعركة ليكونوا شهداء.
في كل مرة يلملم عمر حجو ما أوتي من طيبة وخير ليبثّهما في شخصياته، وما كان كثيراً يقدم أدوار الشر، وحين يقدمها كان يسكبها في قالب كوميدي، ليكسب فضيلة إسعاد الناس على الأقل، كونه لم يستطع أن يحاكي الجزء الطيب فيهم.
العفوية في دخول الفن وعشقه الذي عاشه عمر حجو، تجسدا عفوية في الأداء، ثمّة أدوات تعبير تخصه، تعتمد لغة الجسد أكثر من كونها تتكئ على الحوار، فكانت ارتعاشات يديه الغاضبة، اهتزاز وجنتيه وجفنيه في وجه، حركة جسده التي تتماهى مع حالة شخصيته، لتقول ما لم يقله لسانه.
كل ذلك كان يرسم شكلاً في الأداء التمثيلي لعمر حجو، لو امتلكه سواه لأحاله تنظيراً إلى فهمه الخاص لمنهج ستانسلافيسكي في فن التمثيل وإعداد الممثل، إلا أن عمر حجو الذي لم يعرف هذا الأخير ولا سواه من رواد المسرح ومنظّريه... كان يحيل أداءه وفنه دوماً إلى ما تعلمه من الناس في حارته، ومن خشبة المسرح التي كان يجلس قبالتها، كما يجلس تلميذ أمام معلمه، ليتعلم منها وتثير الساكن في قلبه وفكره.
رغم سنوات العمل الطويلة، كان الفنان الكبير عمر حجو يرغب في سنوات أكثر من ممارسة الفن، وحده الفن كان يمده بالقوة، حتى بدا ابن الثمانين عاماً في آخر مسلسلاته شاباً يتقمص دور الشيخوخة.
من يعرف عمر حجو.. يعرف أن لا شيء أتعبه في دنياه مثل الحب الذي صنعه لمن حوله، ومن يعرف عمر حجو.. يعرف أن لا شيء يمسح عنه تعب هذا الحب إلا الحب ذاته.. إلّا أن الحب بات عملة صعبة في زمننا هذا، زمن الموت العبثي.