انطلقت تجربة الفنان الليبي عمر جهان مع النحت التجميعي والتنصيبات نهاية السبعينيات. كان الفنان منفياً آنذاك، بعد أن سُحبت منه الجنسية سنة 1976، وأُجبر طالب الفلسفة على البقاء في القاهرة بسبب مواقفه المعارضة، خصوصاً بعد أن أصبح يرسم اسكتشات لجموع طلاب بنغازي المتظاهرين في الشوارع. كان الفنان يرسم رفاقه وهو يحلم بأن يكون معهم.
في القاهرة، حيث يستكمل دراساته العليا عن أبي حيان التوحيدي، انهمك جهان في الاشتغال على ثيمة القناع. وأسّس محترفاً صغيراً في حي الدُقي، ومع الوقت كوّن صداقات عميقة مع تشكيليين وأدباء فأسسوا جماعة "إضاءة" الفنية، وتحوّلت تلك الغرفة فوق إحدى عمارات الحيّ العالية إلى ملتقى شبه يومي، يناقش فيها الشعراء قصائدهم، والفنانون لوحاتهم، والمسرحيون مسرحياتهم. وأصبح جهان نفسه يقدّم قراءات نقدية متخصصة في الفن والأدب.
في التسعينيات، قام جهان بتنفيذ مجموعة كبيرة من الأقنعة، وها هو يعود إلى ليبيا في صيف 2013، ويعيد نحت بعضها، ليعرضها حالياً في مدينته مصراته. هل كانت هذه طريقة الفنان في استعادة الزمن المفقود؟ الأمر يشبه كثيراً عثوره على عشر لوحات رسمها سنة 1973 قبل أن يغادر ليبيا. لقد كبر الفنان وظلت لوحته شابة. وهو بإعادة نحت بعض أعماله التي نفّذها سابقاً في مصر، إنما يحاول بشكل ما العودة بالزمن إلى الوراء.
في حديثه إلى "العربي الجديد" يقول جهان: "أنا صانع قناعَيْ الوطن والمنفى، وكلاهما تجربة مختلفة، وكل واحدة تركت أثرها فيّ. كنت أعيش الدم عن بعد وأنا في المنفى، أراقب الجرائم التي يرتكبها النظام السابق، وفي الوطن اليوم أعيش الدم مباشرة وبشكل يومي".
يجيء معرض جهان الذي يقام في مرسمه في مصراته، في وقت توقفت فيه معظم الفعاليات الفنية. مرتادوه معظمهم من سكان المدينة، وبعضهم يأتى من خارجها، أحياناً يوجد زحام، وأحياناً لا يأتي أحد، كأن الأعمال الفنية تتأمل بعضها. يسخر جهان: "اليوم عند الظهيرة، تركت المرسم مفتوحاً على مصراعيه، لم يدخله سوى قطة ضالة يتبعها ظلها".
تكاد مصراتة تكون قاحلة من الأحداث الفنية، فيما عدا بضع مبادرات فردية، مثلما هو معرض جهان، لا توجد أي مؤسسات تلتفت إلى المسرح أو السينما أو الموسيقى، ودون هذه الفنون تبدو الحياة نفسها وكأنها عرجاء. أما الأمر الثاني الذي يلفت إليه جهان، ويرى أنه ما زال واضحاً في مجال الإبداع، فهو سطوة الإيديولوجيا التي ترزح الفنون تحتها وتطلب رضاها أو تحاول التعبير عنها، دون أن تمتلك الحرية الكافية لتفعل ذلك.
تجهيزات جهان الحالية تتمثّل في مجموعة من أباريق الشاي المستعملة والصدئة، إضافة إلى خامات مختلفة من الحديد والألمنيوم والنحاس والورق والتراب. فوق الأباريق، وضع الفنان قبعات مختلفة تدل على شعوب وحقب تاريخية، وكأنه يقدم بهذا التجهيز بانوراما شاملة لحياة ما زالت تفاعلاتها مؤثرة إلى الآن.
عن هذا العمل يوضح جهان: "حاولت - قدر الإمكان - أن أنأى عن المحاكاة، تاركاً الخامة الغُفل تأخذ راحتها في التعبير عن كنهها وكينونتها". غير أن جهان لم يلحق بالموجة السائدة في الفن الليبي الآن، احتفظ بالخامة المتواضعة المألوفة، ولم يشتغل على مخلفات الحرب من قذائف وطلقات فارغة وبقايا أسلحة وخوذات جنود وأحزمة، كما فعل بعض الفنانين الليبيين مثل محمد لامين وعلي الوكواك. إذ لجأ كثير من التشكيليين في ليبيا إلى التعبير عن الحرب باستخدام موادها نفسها، وقدّموا أعمالاً اقتربت كثيراً من المدرسة المفاهيمية والتجريبية.
ومن هؤلاء محمود الحاسي ورمضان البكشيشي وعادل جربوع ومحمد نجيب وعلي الوكواك، حيث جمع الأخير، على سبيل المثال، بقايا ملابس الجنود من خوذات وأحزمة وما تركوه خلفهم من أسلحة تالفة، ليجعل منها شواهد على مرورهم وعلى عبثية الحرب.
لقد آثر جهان أن يعمل على الإبريق والقبعة والوجه. عن الحرب والعمل الفني يوضح "لقد رسمت الحرب في عدة لوحات على هيئة ليبيين يرتدون الزي التقليدي، بدأتها بلوحات فقدت فيها الشخصيات أطرافها، وأنهيت التجربة بلوحات فقدت فيها رؤوسها، حقاً لقد فقد الليبي رأسه"، مضيفاً أن "الإنسان الليبي كان أيضاً بلا رأس في ظل النظام السابق. أما هذه الأيام فهو كذلك بلا حواس، لم يبق له سوى العقل لإنقاذه، وإنقاذ ليبيا من هذه الحفرة المظلمة".
ما زال جهان على حاله حين كان طالباً جامعياً، يحبّذ العمل الجماعي. وحول أنشطته المشتركة مع بقية التشكيليين في مصراته يبيّن: "نعدّ لإطلاق دورة جديدة من "ملتقى رمل التشكيلي العالمي" الذي كانت دورته الأولى آخر 2013، ننتظر أن تهدأ الأوضاع حتى تنطلق أنشطته في أمان".