عمل العالم النووي الدكتور، عماد خدوري، في وكالة الطاقة الذرية العراقية ثلاثين عاماً، وسجل تجربته بكتاب صدر بالإنجليزية عام 2003 وباللغة العربية عام 2005 من الدار العربية للعلوم بعنوان "سراب السلاح النووي العراقي"، كما شارك مع عالمين عراقيين اشتغلا في البرنامج الذري، هما ظافر سلبي وزهير الجلبي، بكتاب صدر عام 2011 بعنوان "معالم وأحداث غير مكشوفة في البرنامج النووي الوطني العراقي 1981-1991".
ولد خدوري عام 1944 في بغداد من أسرة مسيحية كلدانية، وحصل على منحة من الحكومة العراقية بعد تفوقه في الشهادة الثانوية 1961 للحصول على الدكتوراه في الفيزياء النووية، ولكنه آثر أن يدرس ذلك في الولايات المتحدة على حسابه حتى لا يلتزم بالعمل الحكومي.
ترك الولايات المتحدة بعد هزيمة 1967 والتحق بمعسكرات فتح في الأردن، إلا أن ياسر عرفات أمر بعودته للعراق 1968، بعدما شاهده في أحد معسكرات التدريب وعرف عنه وعن تحصيله العلمي.
بين المشروع العراقي والمشروع الإيراني:
من مفارقات القدر العجيبة أن يبدأ المشروع النووي الإيراني على أكتاف المشروع النووي العراقي، حيث أن المشروع العراقي بدأ في العهد الملكي بتأسيس لجنة الطاقة الذرية عام 1956 بعد هدية أميركية من ضمن برنامج "الذرة من أجل السلام" في عهد الرئيس ايزنهاور، حيث كان العراق ضمن حلف بغداد وقررت الولايات المتحدة إعطاء معلومات القنبلة النووية للحلفاء بعد تفجير الاتحاد السوفييتي قنبلة هيدروجينية عام 1952.
شملت الهدية مكتبة نووية صغيرة ومفاعلاً تجريبياً وصل لميناء البصرة 1958 ولكن الأمريكان حولوه إلى ميناء بو شهر الإيراني بسبب قيام ثورة تموز 1958. وكان هذا المفاعل هو بداية المشروع النووي الإيراني وما يزال يعمل حتى الآن في جامعة طهران. بالمقابل اتفق عبد الكريم قاسم مع الاتحاد السوفييتي على بناء مفاعل بـ 2 ميغاواط وبعدها أصبح 5 ميغاواط بالتويثة وبدء الاتحاد السوفييتي ببنائه عام 1962.
الارتباط الآخر بين المشروعين حصل بينما الحرب العراقية-الإيرانية مستعرة، وتمثل بالوعد الذي تلقاه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في نيسان 1985 من أعضاء لجنة الطاقة الذرية، والتي كان يرأسها نائب الرئيس عزة الدوري ونائبه الدكتور همام عبد الخالق، بأن المشروع النووي العراقي سيحقق "أهدافه المثمرة في العام 1990". ووقتها بكى الرئيس، حسب رواية ظافر سلبي أحد الأعضاء الحاضرين وأمر بسيارة مرسيدس جديدة لكل واحد من أعضاء اللجنة. ولم يتم حسب كتاب ظافر سلبي وزهير الجلبي وعماد خدوري، "البرنامج النووي الوطني العراقي"، إعلام الرئيس بأن اللجنة عاجزة عن تحقيق وعدها.
ويتساءل الكتاب إن كان قرار اجتياح الكويت قد اتخذه صدام حسين "معولاً على أنه سيمتلك قوة رادعة غير تقليدية.. ومثل هذا الأمر قد يفسر اللجوء إلى محاولة لاستخلاص اليورانيوم عالي التخصيب من قضبان وقود المفاعلات الذي صدر بعد اجتياح الكويت". أمّا كيف يشعر عالم عراقي تجاه مآل المشروع العراقي مقابل المشروع الإيراني المنافس، فيقول خدوري: "الاتفاق النووي الأميركي الإيراني ثقب السيادة الإيرانية على النشاط النووي وبقي لديهم القليل من عزة النفس في البرنامج النووي حيث سمحوا لهم بخمسة آلاف طارد مركزي".
الحلقة النووية مكونة من خمس فقرات كسلسلة تبدأ بالتنقيب واستخراج اليورانيوم ونقل الكعكة الصفراء الى مراكز التخصيب وتصميم وبناء وتشغيل المفاعلات إن كانت للأبحاث أو للكهرباء ومنشآت لإعادة ومعاملة الوقود النووي المحترق. هذه هي الدورة النووية وكل دولة يجب أن تكون مسؤولة ونافذة على كل الحلقات وهذا الاتفاق حجب عن إيران الرابع والخامس حيث لا يجوز لها تصميم البناء والمفاعلات للأبحاث ولا يجوز إطلاقاً إعادة تكرير الوقود المحترق".
أخيراً ماذا عن الآلاف العلماء العراقيين الذين كانوا هدفاً للموساد وغيره من أجهزة المخابرات العالمية، يستحضر عماد خدوري وبمرارة ما حدث عام 1998 بمقابلة مع رئيس وفد مفتشي وكالة الطاقة غاري ديلين حيث: "قال بالحرف الواحد لقد دمرنا المنشآت وأجهزتكم فماذا عسانا أن نفعل مع الآلاف من العلماء والمهندسين الذين عملوا على هذه المنشآت. وكان الجواب من العالم ظافر سلبي ماذا تريد أن نفعل؟ هل نطلب منهم أن ينتحروا؟". ويستحضر الوجه الآخر من المعاناة، حيث رفضت أجهزة صدام السماح لهؤلاء العلماء بالخروج من العراق واضطر بعضهم للهروب بشكل غير قانوني لأن أجهزة الأمن تعاملت معهم على أنهم جزء من "متحف العراق"، وهو شخصياً حاول الخروج بشكل قانوني ومُنع لأن "صدام كتب بخط يده أنه لا يجب أن يرى الحدود بحياته بسبب وشاية أمنية". ولكنه رفض عرض أحمد الجلبي وإياد علاوي بتهريبه عامي 96-97 عن طريق الشمال، و"كانت إجابتي أني لن أمد يدي لسي أي ايه ولو قطع رأسي
* كيف التحقت بوكالة الطاقة الذرية العراقية؟
رجعت لبغداد عام 1968 وأخبرني صديقي من الثانوية المرحوم، باسل قيسي، أنه يعمل في مركز للأبحاث الذرية، وكان الروس قد بنوه بقدرة 2 ميغا واط في التويثة قرب منطقة الزعفرانية، وبدأ العمل في 1967 وكان فيه عدد من أصدقائي كجعفر ضياء جعفر ونزار القريشي.
زرت المركز، وبدأت العمل مع الدكتور جعفر، وبعد شهور حصلت على بعثة دراسية في جامعة برمنغهام بإنجلترا، وطلبوا مني إعادة الماجستير، بسبب اختلاف نظامي التعليم الإنجليزي والأميركي، فأنجزت ماجستير ودكتوراه بتخصص فيزياء مفاعلات نووية.
عدت لمركز الأبحاث النووية في التويثة 1974، وبدأت بالتنقيب عن اليورانيوم في أنحاء العراق؛ وذلك بإمكانات بسيطة، سائق ولاسلكي وقليل من المال، وبقيت ستة أشهر أبحث عن اليورانيوم في العراق كله، وعثرت على مكمن غني لليورانيوم في منطقة القائم على الحدود السورية. ولاحقاً بني مجمع عكاشات على ضوء ذلك، وشيدت سكة حديد من عكاشات إلى الموصل لنقل الكعكة الصفراء، وتحويلها إلى ثاني أكسيد اليورانيوم لتخصيبه بالمفاعل في الطارمية قرب بغداد.
وقتها، تعاقد رئيس اللجنة الذرية، نائب الرئيس صدام حسين، مع فرنسا لبناء مفاعلات أبحاث في مركزنا فأرسلت سنة 1981 لقيادة مجموعة من الباحثين للتدريب والقيام بالتجارب لتشغيل المفاعل.
* لم يزودكم الفرنسيون، حسب الاتفاق مع صدام، بالوقود اللازم وأعطوكم ما يسمى وقود كراميل؟
اتفق الفرنسيون مع صدام سنة 1976 أن يكون الوقود 92 في المائة تخصيب، ولكنهم وبإصرار أميركي وإسرائيلي بدلوا ذلك بوقود كراميل تخصيبه 18 في المائة؛ أي أقل من 20 في المائة؛ وهذه النسبة هي الحد الأدنى لتصنيع قنبلة.
حدث خلاف مع الفرنسيين، وأوفدنا 1980 العالم المصري يحيى المشد للتفاوض معهم، وكنت أنا من رشحه للعمل في منظمة الطاقة الذرية العراقية. وقام الإسرائيليون باغتياله في فندق الميريديان في باريس. انتظروه في غرفته وهجموا عليه بعصا من النحاس وهشموا رأسه.
* في باريس وبتلك المرحلة حاولوا تجنيدك في الموساد عن طريق تسيبي ليفني؟
هذا صحيح، بوقتها لم أدرك أبعاد اللقاء مع هذه المرأة التي تعرفت إلى زوجتي، وبدأت تطرح أسئلة غريبة عني في أحد دعوات العشاء. ولكنها توقفت عن الاتصال بنا، عندما علمت أنني كنت مع فتح في الأردن. تفاجأت عندما رأيت صورها عندما رشحت نفسها للحكومة مقابل نتنياهو، ونشرت تاريخها الشخصي، وأنها كانت أميرة الموساد في باريس من سنة 1980 حتى 1982.
* كنتم تتدربون في باريس لتشغيل مفاعلي تموز 1 وتموز 2؟
نعم وأثناء التدريب في باريس حدث بيننا خلاف، بين حزبين بعثيين وقيادة علمية في معهد ساكلاي للبحوث العلمية، ووقف رئيس الطاقة الذرية العراقية عبد الرزاق الهاشمي ضدي لصالح البعثيين، وأعادني لبغداد فاعتكفت عن العمل، وكنت فقط أذهب للمركز، وأشغلت وقتي بترجمة كتاب أميركي عن تأثير السلاح النووي، وبتلك الأثناء تم وضع الدكتور جعفر ضياء جعفر وبإيعاز من الهاشمي تحت الإقامة الجبرية لدعمه حسين الشهرستاني.
* لكنك كنت بعثياً، ومن نسبك للبعث هو عادل عبد المهدي؟
عندما كنا في ثانوية بغداد، حاول عادل عبد المهدي عام 1959 إنشاء خلية ضم فيها سميع البنا، فاضل عباس، مهدي نزار قريشي، وكان يعطينا محاضرات عن الاشتراكية ومنظور البعث وفكر ميشيل عفلق.
ولكنه تحول بعد ذلك إلى ماركسي، وقاتل في الأهوار، ومن ثم سجن وهرب إلى فرنسا. وبعد ثورة الخميني تحول لحزب الدعوة ويخرج الآن باللطميات.
* تصف جعفر ضياء جعفر بأبو المشروع النووي العراقي؟
كان الدكتور جعفر ضياء جعفر من أبرز العلماء الفيزيائيين في جامعة برمنغهام في المملكة المتحدة، وخلال ثلاث سنوات حصل على شهادة الدكتوراه وكانت أطروحته من 35 صفحة، ولكنها متينة علميا وحاولوا أن يبقوه في بريطانيا، ولكنه فضل العودة للعراق عام 1967.
أما حسين الشهرستاني فكنا نعمل معا بالمفاعل الروسي، وكنت ألاحظ مدى تدينه. وكان هذا غريبا في وقتها، وقد اعتقل بعد عودته من ندوة في فيينا، حيث طلبوا منه في مطار بغداد فتح الحقيبة، وسحبوا منها معجون الأسنان وشقوها بسكين، ووجدوا نشرات لحزب الدعوة. وفي عام 1991 قام حزب الدعوة بتهريبه من سجن أبو غريب بسيارات للمخابرات وبكتاب مزور منها.
انضم للمعارضة عام 1991 واهتم بالتلوث بالأهوار فاختصاصه هو قياس التلوث، وبعدها أسس جمعية خيرية في لندن وكنت على اتصال معه، ولكني أخذت عليه أنه اشترك بدلا مني في برنامج "ستون دقيقة" لقناة اي بي سي عام 1998، وقال فيه إن العراق حفر أنفاقاً على أنها للميترو، ولكنه كدس فيها المتفجرات الكيماوية، وهذا طبعا تجديف.
وأتذكر أنه اعتقل من الهيئة، عندما كان باجتماع مع جعفر ضياء جعفر وهمام سعيد، فقام جعفر بزيارة زوجته الكندية فجاءت المخابرات العراقية واعتقلت جعفر، ولكنهم أطلقوا سراحه فورا، ولكن الهاشمي وشى به لصدام، ما أدى إلى حجز جعفر في منزل لا يعرف مكانه أحد 18 شهراً تحت الإقامة الجبرية، ولاحقا اكتشفت أن هذا المنزل قريب جدا من منزلي.
* متى عاد جعفر ضياء جعفر إلى هيئة الطاقة الذرية؟
بعد أن ضرب الإسرائيليون المفاعل الفرنسي في يونيو/حزيران 1981، واتخذ صدام حسين قراراً بتعويض المفاعل، وأرسل إلى جعفر يسأله عن إمكانية تخصيب اليورانيوم.
الطائرات الإسرائيلية ضربت المفاعلين قبل التشغيل. كانا في طور البناء. لم تكن بالمفاعلين مواد يمكن أن تسبب تلوثا إشعاعياً. لكنهما كانا قريبين حوالي 300 -400 متر من المفاعل الروسي الذي كان فيه وقود نووي.
* لماذا لم يضرب الإسرائيليون المفاعل الروسي؟
لا أعرف، لاحقا الأميركيون ضربوا المفاعل الروسي عام 1991 وعام 2003. ولولا لطف الله ولو سقطت القنبلة في قلب المفاعل لمحيت بغداد.
* هل للفرنسيين يد بضرب مفاعلي تموز؟ هل سلموا المخططات؟
هناك شك أن الموساد الإسرائيلي تغلغل في المئات من العلماء والفنيين الفرنسيين، بحيث عرف الإسرائيليون أن قلب المفاعل كان يشحن من جنوب فرنسا، وفجر هذا القلب في الميناء قبل شحنه، وأعاد الفرنسيون تصنيعه وشحنوه إلى العراق تحت حراسة مشددة، ويقال إن العديد من الفرنسيين يوم الضربة لم يذهبوا إلى العمل، وإن أحد الفنيين ترك رادارا صغيرا قرب قلب المفاعل الفرنسي لتوجيه الصواريخ الإسرائيلية إليه.
* تقول بكتابك إن الرادارات العراقية رصدت المقاتلات الإسرائيلية؟
نعم، عندما دخلت من السعودية على ارتفاع منخفض بلغت محطات الرادار العراقية في الجنوب الغربي عنها، ولكن التأخير حصل بالمستويات القيادية العليا.
* بماذا رد جعفر ضياء جعفر على طلب صدام حسين؟
درس الموضوع، وأجرى التحليلات الرياضية المطلوبة والتوقعات، وقدمها لصدام الذي عينه مسؤولا عن هذا البرنامج السري، واشترط جعفر تنحية عبد الرزاق الهاشمي؛ وهذا ما حصل.
جمع جعفر العلماء المتميزين، ووزع عليهم المسؤوليات العلمية والإدارية، وكلفني بالحصول على المعلومات العلمية السرية ومجسات دقيقة للغاية وليزر. وكنت أسافر إلى أميركا ومعي حقيبة كلها كاش، خمسون أو مائة ألف دولار، أشتري بها ليزر من شخص هندي بفلوريدا أو أحضر مؤتمراً، وأوصي على قائمة مطبوعات علمية، ومن ضمنها مطبوعات علمية حساسة. وكان عندنا نظام مشتريات معقد جدا، وكنت حلقة الوصل بين مجموعة جعفر وبين لجنة المشتريات لتمرير مشترياتنا الحساسة، وخلقنا حوالي ثلاث عشرة قناة وهمية بوزارة الصناعة ووزارة الصحة وغيرهما.
وفي أحد الأيام اتصل بي صديقي اللبناني الدكتور حسن شريف، وكان مسؤول الاسكوا التي كان مقرها بغداد، وأخبرني أن هناك مؤتمراً مهماً في الكويت عن الإلكترونيات، واقترح أن أرسل باحثا من عندي، فرشحت المرحوم باسل القيسي، ولكن بعد يومين جاءت المخابرات وحققت معي؛ لأني تحدثت مع شخص يعمل في هيئات دولية دون موافقتها.
طلبت المخابرات إبعادي عن الهيئة، ولكن أصدقائي بإدارة الهيئة، ومن ضمنهم ظافر سلبي، أصروا أن أبقى، ولكن ضمن مشروع بناء محطة كهرونووية سوفيتية، وعينت مسؤولاً عن قسم تأكيد الجودة. وعلمت لاحقا من همام عبد الخالق عام 1987 أن مشروع المحطة كان تمويهاً لكي يظن العالم أننا في المجال السلمي. بعدها حصلت مشاكل علمية في مشروع جعفر النووي، فاتصل بي ظافر سلبي، وكلفني بالعمل على توفير معلومات عن الموضوع النووي. حصل هذا عام 1985 بعد أن وعد أعضاء هيئة الطاقة الذرية الرئيس صدام بإنجاز ملموس خلال خمس سنوات.
في نيسان سنة 1985 اجتمع صدام في مزرعته جانب المطار بلجنة الطاقة الذرية، وهم همام عبد الخالق وجعفر ضياء جعفر وظافر سلبي وخالد سعيد ورحيم الكتل وميسر الملاح. وكان صدام معه سكرتيره الشخصي، أما بالخارج فكان يقف حسين كامل مع نفر من الحماية، وأمرهم صدام أن يبتعدوا لكيلا يسمعوا ما يقال.
تكلم همام عبد الخالق نائب رئيس اللجنة أنه خلال خمس سنوات سنصل إلى الهدف فدمعت عينا صدام.
* هل الهدف هو القنبلة النووية؟
لا أعرف. لما عادوا إلى المركز ثارت زوبعة عنيفة بين همام عبد الخالق وبين المرحوم عبد الرحيم الكتل؛ لأن اللجنة باستثناء همام وجعفر لا تعرف بماذا وعد صدام.
عام 1987 أعلن جعفر خلال اجتماع اللجنة أنهم لن يستطيعوا الوفاء بوعدهم لصدام، فتم الاتفاق على تسهيل عمل جعفر ليركز على النواحي العلمية.
* هل أبلغ صدام أن الوعد لن ينفذ؟
لا، أبلغه همام أن المسؤولية الإدارية رفعت عن كاهل جعفر وأسندت لظافر، وأن بعض منشآت التصنيع العسكري لا تلبي طلباتنا، وكان رئيسها حسين كامل.
بتلك الفترة رفع خضر حمزة تقريرا لصدام حسين أن الأموال الطائلة التي بذلت لن تؤدي إلى نتيجة، وأرسل صدام التقرير لحسين كامل، فاجتمع حسين كامل مع جعفر وهمام، وقال كلاما قاسيا بحق همام. وفي اليوم التالي صدر أمر من صدام أن يتولى حسين كامل مسؤولية الطاقة الذرية عام 1987، وأطلق علينا اسم مشروع البتروكيميائيات 3 وكلف حسين كامل خضر حمزة بمشروع تصنيع القنبلة النووية، لاحقاً انشق وادعى أنه يعرف أسرار القنبلة النووية، رغم أنه أمضى شهرين فقط بإدارة المشروع وفشل فشلاً ذريعاً.
* ألّف، في ما بعد، كتاب "قنبلة صدام"؟
نعم، بعد شهرين من تكليف حسين كامل لخضر عباس، فأجأه الأخير بتقرير يطلب فيه "للحصول على القنبلة" ثلاثة آلاف عالم فيزياء نووي وعشرة ملايين دولار وخمس سنوات. فأرسل حسين كامل الفريق عامر السعدي ليجتمع مع اللجنة ويسألها عن طلبات خضر، فرد الدكتور المرحوم خالد إبراهيم سعيد: "انا أتمم المشروع بثلاث سنين". بعدها وجدوا أن خضر يسرق بعض أجهزة التكييف من بناية اتحاد العمال التي خصصت لفريقه، فقام حسين كامل بعزله وعين خالد ابراهيم سعيد.
عند بداية مشروع القنبلة مع جعفر ضياء جعفر كان الاهتمام على التخصيب، وبالفعل حصلنا على 90 في المائة، وعندما وعد حسين كامل صدام بصنع القنبلة بثلاث سنين لم يكن العلماء قد درسوا أو باشروا بتصميم القنبلة والصاعق والكونترول.
* نعود إلى قبل ذلك، عندما أعلن جعفر أنه لن يكون بالإمكان إنجاز القنبلة خلال خمس سنوات. ماذا حصل؟
تم تكليف ظافر سلبي إدارياً، وكلفني ظافر الحصول على المواصفات الصناعية والعسكرية الأميركية والأوروبية وكتالوجات المنتوجات، وقد قمنا باستئجارها بربع مليون دولار في العام من شركة أي إتش إس، ومقرها في قبرص مما سمح للعلماء أن يحصلوا على ميكروفيلم فيه حوالي 5000 فيلم، فكان يأتي أحدهم ويقول أريد أن أصنع مسبحة فأجد له كل المواصفات الصناعية لها وكتالوجات الشركات التي تصنعها، وما هو السعر التقريبي لها.
وأيضاً الحصول على المعلومات العلمية، فجردنا مكتبة الهيئة ووجدنا مجلات علمية نشرت فيها وكالة الطاقة الذرية الاميركية سنة 1948 الأبحاث التي تخص مشروع القنبلة النووية، ووجدنا في غرفة مقفلة صندوقا، فيه كتب ومنشورات أرسلت للعراق سنة 1956 تحت برنامج الذرة للسلام من قبل الرئيس أيزنهاور.
كما كلفت قنصلنا في فيينا أن يقوم الطلبة العراقيون في جامعات أوروبية بشراء أبحاث براءات الاختراع، وبكلفة 150 دولاراً اشترينا 156 براءة اختراع. وهذا حقق تقدماً في تطوير مشروع الفاصلات النووية (الأسلوب الأميركي) التي تم العمل عليها بإصرار من ظافر على عكس جعفر الذي كان يسير على خط آخر هو الفصل الكهرومغناطيسي (الأسلوب الألماني).
* متى توقف المشروع؟
في 17 فبراير/شباط 1991 قصف الأميركيون المنطقة، وسقطت قنابل على بعد 100 متر عن المفاعل، ومن حسن الحظ أن هذه القنابل لم تقع في قلب المفاعل.
المفاعل العراقي ظل يعمل حتى ليلة الضربة، وكنا نحاول تجربة تفجير القنبلة بنابض مشع، وباستخدام الوقود الروسي غير المحترق بصهره لاستخراج اليورانيوم منه، بتوجيه من حسين كامل.
* بعد هذه الضربة توقف المشروع النووي العراقي؟
كليا، بالرغم من أن خضر حمزة قدم تقارير مزورة للإيرانيين قدموها للوكالة الدولية بأننا عدنا للنشاط النووي العسكري، ومذكور في هذه التقارير أن كرة اليورانيوم تكون على شكل نصفين أطلقوا عليها في هذه التقارير قبة، ونحن في العراق لا نطلق عليها قبة، وإنما نصف كرة.
بعد ذلك استولى حسين كامل على مجمل المهندسين والعلماء وحولهم إلى هيئة التصنيع.
* ساهمت أيضاً بجرد وثائق المشروع النووي العراقي؟
نعم، وكان ذلك قبل الضربة بشهور فقط، وكنت قبلها أقوم بمتابعة العلماء والمهندسين الموفدين للخارج، وأصنف تقاريرهم بترقيم سري متقن، وأوزعها على عدد محدود.
في عام 1990 اشتريت جهازين جديدين من اليابان لتخزين الوثائق على قرص مغناطيسي، ووصل الجهازان لبغداد ليلة الدخول إلى الكويت 2 أغسطس /آب 1990، وقمت بتخزين الوثائق الموجودة عندنا على قرص، وأخذناها إلى ثانوية بالقرب من الطارمية، فيها غرفة داخل غرفة وداخلها غرفة صغيرة جدا لأغراض تحميض الأفلام.
عندما جاء مفتشو الوكالة الدولية 1991 أخرج جعفر الوثائق من الغرفة، ووضعها في قطار يسير بين البصرة والموصل وبغداد في قطارة محكمة الغلق. طلب المفتشون من العلماء تفصيلات فنية، فاشتكوا لجعفر عدم وجود الوثائق؛ مما قد يتسبب بإعطاء معلومات مغلوطة، فأرسل جعفر الوثائق إلى بناء اتحاد العمال، وعلم المفتشون بالمكان فداهم المفتش ديفيد كاي المكان وحصل على الوثائق.
* هذه الوثائق المكتوبة. أين الأقراص الإلكترونية؟
نسخت ثلاث نسخ، وكانت بعهدتي إلى أن أمرني جعفر بإعطائها للدكتور عبد الحليم حجاج، فأعطيته نسخة، وبقيت لدي نسختان.
وبعد أن انتقلت عام 1991 إلى وزارة الخارجية للعمل مع الوزير محمد سعيد الصحاف، أتى عبد الحليم، وطلب مني سيديات أخرى، وأعلمني أنه أعطى النسخة التي سلمتها له لمفتشي الوكالة الدولية.
* هل هناك وثائق أخرى تم الكشف عنها؟
حاصر المفتشون مبنى الخيرات قرب فندق الشيراتون، وفتشوا الكمبيوتر في المبنى، ووجدوا فيه معلومات عن منتسبي الطاقة الذرية، كما حصلوا على تقرير عن مشروع القنبلة النووية للمرحوم خالد سعيد، وعلموا أيضا أن هناك منشأة نجت بالكامل من القصف؛ هي منشأة الأثير، وكانت مصممة بشكل مبدع لإخفاء وظيفتها، ففجر المفتشون المبنى أمام العلماء والمهندسين.
نتائج المغامرة:
عندما توقف المشروع النووي العراقي عام 1991 كانت نسبة ما تم إنجازه لا تتعدى عشرين بالمئة على صعيد التخصيب، في حين أن تصميم القنبلة ونظام التحكم والسيطرة عليها ونظم التوجيه والإطلاق والصواريخ اللازمة لحمل هذه الوزن "كل هذا كان في بداياته". وكان ما حصل عليه العراقيون خمس غرامات في حين المطلوب لتصنيع قنبلة من 18 إلى 20 كيلوغراماً. ومع ذلك يصر الكثير من العلماء العراقيين أنهم كانوا بطور نتائج مهمة، لو لم يحصل العدوان الأميركي 1991 ومنهم من يقدر أن المدة المتبقية لهم لصنع قنبلة ذرية كانت عدة أشهر إلى سنتين. "تقدمنا بسرعة مطردة خلال 88-89-90 وتمكنّا من تخصيب اليورانيوم إلى 90 بالمئة ولكن بكميات قليلة، غرامات فقط، وكنا في صدد نصب بقية الفاصلات التي تنتج بسرعة أعلى وأيضاً بنينا موقعاً بديلاً مطابقاً لموقع الطامية في الشمال".
ولد خدوري عام 1944 في بغداد من أسرة مسيحية كلدانية، وحصل على منحة من الحكومة العراقية بعد تفوقه في الشهادة الثانوية 1961 للحصول على الدكتوراه في الفيزياء النووية، ولكنه آثر أن يدرس ذلك في الولايات المتحدة على حسابه حتى لا يلتزم بالعمل الحكومي.
ترك الولايات المتحدة بعد هزيمة 1967 والتحق بمعسكرات فتح في الأردن، إلا أن ياسر عرفات أمر بعودته للعراق 1968، بعدما شاهده في أحد معسكرات التدريب وعرف عنه وعن تحصيله العلمي.
بين المشروع العراقي والمشروع الإيراني:
من مفارقات القدر العجيبة أن يبدأ المشروع النووي الإيراني على أكتاف المشروع النووي العراقي، حيث أن المشروع العراقي بدأ في العهد الملكي بتأسيس لجنة الطاقة الذرية عام 1956 بعد هدية أميركية من ضمن برنامج "الذرة من أجل السلام" في عهد الرئيس ايزنهاور، حيث كان العراق ضمن حلف بغداد وقررت الولايات المتحدة إعطاء معلومات القنبلة النووية للحلفاء بعد تفجير الاتحاد السوفييتي قنبلة هيدروجينية عام 1952.
شملت الهدية مكتبة نووية صغيرة ومفاعلاً تجريبياً وصل لميناء البصرة 1958 ولكن الأمريكان حولوه إلى ميناء بو شهر الإيراني بسبب قيام ثورة تموز 1958. وكان هذا المفاعل هو بداية المشروع النووي الإيراني وما يزال يعمل حتى الآن في جامعة طهران. بالمقابل اتفق عبد الكريم قاسم مع الاتحاد السوفييتي على بناء مفاعل بـ 2 ميغاواط وبعدها أصبح 5 ميغاواط بالتويثة وبدء الاتحاد السوفييتي ببنائه عام 1962.
الارتباط الآخر بين المشروعين حصل بينما الحرب العراقية-الإيرانية مستعرة، وتمثل بالوعد الذي تلقاه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في نيسان 1985 من أعضاء لجنة الطاقة الذرية، والتي كان يرأسها نائب الرئيس عزة الدوري ونائبه الدكتور همام عبد الخالق، بأن المشروع النووي العراقي سيحقق "أهدافه المثمرة في العام 1990". ووقتها بكى الرئيس، حسب رواية ظافر سلبي أحد الأعضاء الحاضرين وأمر بسيارة مرسيدس جديدة لكل واحد من أعضاء اللجنة. ولم يتم حسب كتاب ظافر سلبي وزهير الجلبي وعماد خدوري، "البرنامج النووي الوطني العراقي"، إعلام الرئيس بأن اللجنة عاجزة عن تحقيق وعدها.
ويتساءل الكتاب إن كان قرار اجتياح الكويت قد اتخذه صدام حسين "معولاً على أنه سيمتلك قوة رادعة غير تقليدية.. ومثل هذا الأمر قد يفسر اللجوء إلى محاولة لاستخلاص اليورانيوم عالي التخصيب من قضبان وقود المفاعلات الذي صدر بعد اجتياح الكويت". أمّا كيف يشعر عالم عراقي تجاه مآل المشروع العراقي مقابل المشروع الإيراني المنافس، فيقول خدوري: "الاتفاق النووي الأميركي الإيراني ثقب السيادة الإيرانية على النشاط النووي وبقي لديهم القليل من عزة النفس في البرنامج النووي حيث سمحوا لهم بخمسة آلاف طارد مركزي".
الحلقة النووية مكونة من خمس فقرات كسلسلة تبدأ بالتنقيب واستخراج اليورانيوم ونقل الكعكة الصفراء الى مراكز التخصيب وتصميم وبناء وتشغيل المفاعلات إن كانت للأبحاث أو للكهرباء ومنشآت لإعادة ومعاملة الوقود النووي المحترق. هذه هي الدورة النووية وكل دولة يجب أن تكون مسؤولة ونافذة على كل الحلقات وهذا الاتفاق حجب عن إيران الرابع والخامس حيث لا يجوز لها تصميم البناء والمفاعلات للأبحاث ولا يجوز إطلاقاً إعادة تكرير الوقود المحترق".
أخيراً ماذا عن الآلاف العلماء العراقيين الذين كانوا هدفاً للموساد وغيره من أجهزة المخابرات العالمية، يستحضر عماد خدوري وبمرارة ما حدث عام 1998 بمقابلة مع رئيس وفد مفتشي وكالة الطاقة غاري ديلين حيث: "قال بالحرف الواحد لقد دمرنا المنشآت وأجهزتكم فماذا عسانا أن نفعل مع الآلاف من العلماء والمهندسين الذين عملوا على هذه المنشآت. وكان الجواب من العالم ظافر سلبي ماذا تريد أن نفعل؟ هل نطلب منهم أن ينتحروا؟". ويستحضر الوجه الآخر من المعاناة، حيث رفضت أجهزة صدام السماح لهؤلاء العلماء بالخروج من العراق واضطر بعضهم للهروب بشكل غير قانوني لأن أجهزة الأمن تعاملت معهم على أنهم جزء من "متحف العراق"، وهو شخصياً حاول الخروج بشكل قانوني ومُنع لأن "صدام كتب بخط يده أنه لا يجب أن يرى الحدود بحياته بسبب وشاية أمنية". ولكنه رفض عرض أحمد الجلبي وإياد علاوي بتهريبه عامي 96-97 عن طريق الشمال، و"كانت إجابتي أني لن أمد يدي لسي أي ايه ولو قطع رأسي
* كيف التحقت بوكالة الطاقة الذرية العراقية؟
رجعت لبغداد عام 1968 وأخبرني صديقي من الثانوية المرحوم، باسل قيسي، أنه يعمل في مركز للأبحاث الذرية، وكان الروس قد بنوه بقدرة 2 ميغا واط في التويثة قرب منطقة الزعفرانية، وبدأ العمل في 1967 وكان فيه عدد من أصدقائي كجعفر ضياء جعفر ونزار القريشي.
زرت المركز، وبدأت العمل مع الدكتور جعفر، وبعد شهور حصلت على بعثة دراسية في جامعة برمنغهام بإنجلترا، وطلبوا مني إعادة الماجستير، بسبب اختلاف نظامي التعليم الإنجليزي والأميركي، فأنجزت ماجستير ودكتوراه بتخصص فيزياء مفاعلات نووية.
عدت لمركز الأبحاث النووية في التويثة 1974، وبدأت بالتنقيب عن اليورانيوم في أنحاء العراق؛ وذلك بإمكانات بسيطة، سائق ولاسلكي وقليل من المال، وبقيت ستة أشهر أبحث عن اليورانيوم في العراق كله، وعثرت على مكمن غني لليورانيوم في منطقة القائم على الحدود السورية. ولاحقاً بني مجمع عكاشات على ضوء ذلك، وشيدت سكة حديد من عكاشات إلى الموصل لنقل الكعكة الصفراء، وتحويلها إلى ثاني أكسيد اليورانيوم لتخصيبه بالمفاعل في الطارمية قرب بغداد.
وقتها، تعاقد رئيس اللجنة الذرية، نائب الرئيس صدام حسين، مع فرنسا لبناء مفاعلات أبحاث في مركزنا فأرسلت سنة 1981 لقيادة مجموعة من الباحثين للتدريب والقيام بالتجارب لتشغيل المفاعل.
* لم يزودكم الفرنسيون، حسب الاتفاق مع صدام، بالوقود اللازم وأعطوكم ما يسمى وقود كراميل؟
اتفق الفرنسيون مع صدام سنة 1976 أن يكون الوقود 92 في المائة تخصيب، ولكنهم وبإصرار أميركي وإسرائيلي بدلوا ذلك بوقود كراميل تخصيبه 18 في المائة؛ أي أقل من 20 في المائة؛ وهذه النسبة هي الحد الأدنى لتصنيع قنبلة.
حدث خلاف مع الفرنسيين، وأوفدنا 1980 العالم المصري يحيى المشد للتفاوض معهم، وكنت أنا من رشحه للعمل في منظمة الطاقة الذرية العراقية. وقام الإسرائيليون باغتياله في فندق الميريديان في باريس. انتظروه في غرفته وهجموا عليه بعصا من النحاس وهشموا رأسه.
* في باريس وبتلك المرحلة حاولوا تجنيدك في الموساد عن طريق تسيبي ليفني؟
هذا صحيح، بوقتها لم أدرك أبعاد اللقاء مع هذه المرأة التي تعرفت إلى زوجتي، وبدأت تطرح أسئلة غريبة عني في أحد دعوات العشاء. ولكنها توقفت عن الاتصال بنا، عندما علمت أنني كنت مع فتح في الأردن. تفاجأت عندما رأيت صورها عندما رشحت نفسها للحكومة مقابل نتنياهو، ونشرت تاريخها الشخصي، وأنها كانت أميرة الموساد في باريس من سنة 1980 حتى 1982.
* كنتم تتدربون في باريس لتشغيل مفاعلي تموز 1 وتموز 2؟
نعم وأثناء التدريب في باريس حدث بيننا خلاف، بين حزبين بعثيين وقيادة علمية في معهد ساكلاي للبحوث العلمية، ووقف رئيس الطاقة الذرية العراقية عبد الرزاق الهاشمي ضدي لصالح البعثيين، وأعادني لبغداد فاعتكفت عن العمل، وكنت فقط أذهب للمركز، وأشغلت وقتي بترجمة كتاب أميركي عن تأثير السلاح النووي، وبتلك الأثناء تم وضع الدكتور جعفر ضياء جعفر وبإيعاز من الهاشمي تحت الإقامة الجبرية لدعمه حسين الشهرستاني.
* لكنك كنت بعثياً، ومن نسبك للبعث هو عادل عبد المهدي؟
عندما كنا في ثانوية بغداد، حاول عادل عبد المهدي عام 1959 إنشاء خلية ضم فيها سميع البنا، فاضل عباس، مهدي نزار قريشي، وكان يعطينا محاضرات عن الاشتراكية ومنظور البعث وفكر ميشيل عفلق.
ولكنه تحول بعد ذلك إلى ماركسي، وقاتل في الأهوار، ومن ثم سجن وهرب إلى فرنسا. وبعد ثورة الخميني تحول لحزب الدعوة ويخرج الآن باللطميات.
* تصف جعفر ضياء جعفر بأبو المشروع النووي العراقي؟
كان الدكتور جعفر ضياء جعفر من أبرز العلماء الفيزيائيين في جامعة برمنغهام في المملكة المتحدة، وخلال ثلاث سنوات حصل على شهادة الدكتوراه وكانت أطروحته من 35 صفحة، ولكنها متينة علميا وحاولوا أن يبقوه في بريطانيا، ولكنه فضل العودة للعراق عام 1967.
أما حسين الشهرستاني فكنا نعمل معا بالمفاعل الروسي، وكنت ألاحظ مدى تدينه. وكان هذا غريبا في وقتها، وقد اعتقل بعد عودته من ندوة في فيينا، حيث طلبوا منه في مطار بغداد فتح الحقيبة، وسحبوا منها معجون الأسنان وشقوها بسكين، ووجدوا نشرات لحزب الدعوة. وفي عام 1991 قام حزب الدعوة بتهريبه من سجن أبو غريب بسيارات للمخابرات وبكتاب مزور منها.
انضم للمعارضة عام 1991 واهتم بالتلوث بالأهوار فاختصاصه هو قياس التلوث، وبعدها أسس جمعية خيرية في لندن وكنت على اتصال معه، ولكني أخذت عليه أنه اشترك بدلا مني في برنامج "ستون دقيقة" لقناة اي بي سي عام 1998، وقال فيه إن العراق حفر أنفاقاً على أنها للميترو، ولكنه كدس فيها المتفجرات الكيماوية، وهذا طبعا تجديف.
وأتذكر أنه اعتقل من الهيئة، عندما كان باجتماع مع جعفر ضياء جعفر وهمام سعيد، فقام جعفر بزيارة زوجته الكندية فجاءت المخابرات العراقية واعتقلت جعفر، ولكنهم أطلقوا سراحه فورا، ولكن الهاشمي وشى به لصدام، ما أدى إلى حجز جعفر في منزل لا يعرف مكانه أحد 18 شهراً تحت الإقامة الجبرية، ولاحقا اكتشفت أن هذا المنزل قريب جدا من منزلي.
* متى عاد جعفر ضياء جعفر إلى هيئة الطاقة الذرية؟
بعد أن ضرب الإسرائيليون المفاعل الفرنسي في يونيو/حزيران 1981، واتخذ صدام حسين قراراً بتعويض المفاعل، وأرسل إلى جعفر يسأله عن إمكانية تخصيب اليورانيوم.
الطائرات الإسرائيلية ضربت المفاعلين قبل التشغيل. كانا في طور البناء. لم تكن بالمفاعلين مواد يمكن أن تسبب تلوثا إشعاعياً. لكنهما كانا قريبين حوالي 300 -400 متر من المفاعل الروسي الذي كان فيه وقود نووي.
* لماذا لم يضرب الإسرائيليون المفاعل الروسي؟
لا أعرف، لاحقا الأميركيون ضربوا المفاعل الروسي عام 1991 وعام 2003. ولولا لطف الله ولو سقطت القنبلة في قلب المفاعل لمحيت بغداد.
* هل للفرنسيين يد بضرب مفاعلي تموز؟ هل سلموا المخططات؟
هناك شك أن الموساد الإسرائيلي تغلغل في المئات من العلماء والفنيين الفرنسيين، بحيث عرف الإسرائيليون أن قلب المفاعل كان يشحن من جنوب فرنسا، وفجر هذا القلب في الميناء قبل شحنه، وأعاد الفرنسيون تصنيعه وشحنوه إلى العراق تحت حراسة مشددة، ويقال إن العديد من الفرنسيين يوم الضربة لم يذهبوا إلى العمل، وإن أحد الفنيين ترك رادارا صغيرا قرب قلب المفاعل الفرنسي لتوجيه الصواريخ الإسرائيلية إليه.
* تقول بكتابك إن الرادارات العراقية رصدت المقاتلات الإسرائيلية؟
نعم، عندما دخلت من السعودية على ارتفاع منخفض بلغت محطات الرادار العراقية في الجنوب الغربي عنها، ولكن التأخير حصل بالمستويات القيادية العليا.
* بماذا رد جعفر ضياء جعفر على طلب صدام حسين؟
درس الموضوع، وأجرى التحليلات الرياضية المطلوبة والتوقعات، وقدمها لصدام الذي عينه مسؤولا عن هذا البرنامج السري، واشترط جعفر تنحية عبد الرزاق الهاشمي؛ وهذا ما حصل.
جمع جعفر العلماء المتميزين، ووزع عليهم المسؤوليات العلمية والإدارية، وكلفني بالحصول على المعلومات العلمية السرية ومجسات دقيقة للغاية وليزر. وكنت أسافر إلى أميركا ومعي حقيبة كلها كاش، خمسون أو مائة ألف دولار، أشتري بها ليزر من شخص هندي بفلوريدا أو أحضر مؤتمراً، وأوصي على قائمة مطبوعات علمية، ومن ضمنها مطبوعات علمية حساسة. وكان عندنا نظام مشتريات معقد جدا، وكنت حلقة الوصل بين مجموعة جعفر وبين لجنة المشتريات لتمرير مشترياتنا الحساسة، وخلقنا حوالي ثلاث عشرة قناة وهمية بوزارة الصناعة ووزارة الصحة وغيرهما.
وفي أحد الأيام اتصل بي صديقي اللبناني الدكتور حسن شريف، وكان مسؤول الاسكوا التي كان مقرها بغداد، وأخبرني أن هناك مؤتمراً مهماً في الكويت عن الإلكترونيات، واقترح أن أرسل باحثا من عندي، فرشحت المرحوم باسل القيسي، ولكن بعد يومين جاءت المخابرات وحققت معي؛ لأني تحدثت مع شخص يعمل في هيئات دولية دون موافقتها.
طلبت المخابرات إبعادي عن الهيئة، ولكن أصدقائي بإدارة الهيئة، ومن ضمنهم ظافر سلبي، أصروا أن أبقى، ولكن ضمن مشروع بناء محطة كهرونووية سوفيتية، وعينت مسؤولاً عن قسم تأكيد الجودة. وعلمت لاحقا من همام عبد الخالق عام 1987 أن مشروع المحطة كان تمويهاً لكي يظن العالم أننا في المجال السلمي. بعدها حصلت مشاكل علمية في مشروع جعفر النووي، فاتصل بي ظافر سلبي، وكلفني بالعمل على توفير معلومات عن الموضوع النووي. حصل هذا عام 1985 بعد أن وعد أعضاء هيئة الطاقة الذرية الرئيس صدام بإنجاز ملموس خلال خمس سنوات.
في نيسان سنة 1985 اجتمع صدام في مزرعته جانب المطار بلجنة الطاقة الذرية، وهم همام عبد الخالق وجعفر ضياء جعفر وظافر سلبي وخالد سعيد ورحيم الكتل وميسر الملاح. وكان صدام معه سكرتيره الشخصي، أما بالخارج فكان يقف حسين كامل مع نفر من الحماية، وأمرهم صدام أن يبتعدوا لكيلا يسمعوا ما يقال.
تكلم همام عبد الخالق نائب رئيس اللجنة أنه خلال خمس سنوات سنصل إلى الهدف فدمعت عينا صدام.
* هل الهدف هو القنبلة النووية؟
لا أعرف. لما عادوا إلى المركز ثارت زوبعة عنيفة بين همام عبد الخالق وبين المرحوم عبد الرحيم الكتل؛ لأن اللجنة باستثناء همام وجعفر لا تعرف بماذا وعد صدام.
عام 1987 أعلن جعفر خلال اجتماع اللجنة أنهم لن يستطيعوا الوفاء بوعدهم لصدام، فتم الاتفاق على تسهيل عمل جعفر ليركز على النواحي العلمية.
* هل أبلغ صدام أن الوعد لن ينفذ؟
لا، أبلغه همام أن المسؤولية الإدارية رفعت عن كاهل جعفر وأسندت لظافر، وأن بعض منشآت التصنيع العسكري لا تلبي طلباتنا، وكان رئيسها حسين كامل.
بتلك الفترة رفع خضر حمزة تقريرا لصدام حسين أن الأموال الطائلة التي بذلت لن تؤدي إلى نتيجة، وأرسل صدام التقرير لحسين كامل، فاجتمع حسين كامل مع جعفر وهمام، وقال كلاما قاسيا بحق همام. وفي اليوم التالي صدر أمر من صدام أن يتولى حسين كامل مسؤولية الطاقة الذرية عام 1987، وأطلق علينا اسم مشروع البتروكيميائيات 3 وكلف حسين كامل خضر حمزة بمشروع تصنيع القنبلة النووية، لاحقاً انشق وادعى أنه يعرف أسرار القنبلة النووية، رغم أنه أمضى شهرين فقط بإدارة المشروع وفشل فشلاً ذريعاً.
* ألّف، في ما بعد، كتاب "قنبلة صدام"؟
نعم، بعد شهرين من تكليف حسين كامل لخضر عباس، فأجأه الأخير بتقرير يطلب فيه "للحصول على القنبلة" ثلاثة آلاف عالم فيزياء نووي وعشرة ملايين دولار وخمس سنوات. فأرسل حسين كامل الفريق عامر السعدي ليجتمع مع اللجنة ويسألها عن طلبات خضر، فرد الدكتور المرحوم خالد إبراهيم سعيد: "انا أتمم المشروع بثلاث سنين". بعدها وجدوا أن خضر يسرق بعض أجهزة التكييف من بناية اتحاد العمال التي خصصت لفريقه، فقام حسين كامل بعزله وعين خالد ابراهيم سعيد.
عند بداية مشروع القنبلة مع جعفر ضياء جعفر كان الاهتمام على التخصيب، وبالفعل حصلنا على 90 في المائة، وعندما وعد حسين كامل صدام بصنع القنبلة بثلاث سنين لم يكن العلماء قد درسوا أو باشروا بتصميم القنبلة والصاعق والكونترول.
* نعود إلى قبل ذلك، عندما أعلن جعفر أنه لن يكون بالإمكان إنجاز القنبلة خلال خمس سنوات. ماذا حصل؟
تم تكليف ظافر سلبي إدارياً، وكلفني ظافر الحصول على المواصفات الصناعية والعسكرية الأميركية والأوروبية وكتالوجات المنتوجات، وقد قمنا باستئجارها بربع مليون دولار في العام من شركة أي إتش إس، ومقرها في قبرص مما سمح للعلماء أن يحصلوا على ميكروفيلم فيه حوالي 5000 فيلم، فكان يأتي أحدهم ويقول أريد أن أصنع مسبحة فأجد له كل المواصفات الصناعية لها وكتالوجات الشركات التي تصنعها، وما هو السعر التقريبي لها.
وأيضاً الحصول على المعلومات العلمية، فجردنا مكتبة الهيئة ووجدنا مجلات علمية نشرت فيها وكالة الطاقة الذرية الاميركية سنة 1948 الأبحاث التي تخص مشروع القنبلة النووية، ووجدنا في غرفة مقفلة صندوقا، فيه كتب ومنشورات أرسلت للعراق سنة 1956 تحت برنامج الذرة للسلام من قبل الرئيس أيزنهاور.
كما كلفت قنصلنا في فيينا أن يقوم الطلبة العراقيون في جامعات أوروبية بشراء أبحاث براءات الاختراع، وبكلفة 150 دولاراً اشترينا 156 براءة اختراع. وهذا حقق تقدماً في تطوير مشروع الفاصلات النووية (الأسلوب الأميركي) التي تم العمل عليها بإصرار من ظافر على عكس جعفر الذي كان يسير على خط آخر هو الفصل الكهرومغناطيسي (الأسلوب الألماني).
* متى توقف المشروع؟
في 17 فبراير/شباط 1991 قصف الأميركيون المنطقة، وسقطت قنابل على بعد 100 متر عن المفاعل، ومن حسن الحظ أن هذه القنابل لم تقع في قلب المفاعل.
المفاعل العراقي ظل يعمل حتى ليلة الضربة، وكنا نحاول تجربة تفجير القنبلة بنابض مشع، وباستخدام الوقود الروسي غير المحترق بصهره لاستخراج اليورانيوم منه، بتوجيه من حسين كامل.
* بعد هذه الضربة توقف المشروع النووي العراقي؟
كليا، بالرغم من أن خضر حمزة قدم تقارير مزورة للإيرانيين قدموها للوكالة الدولية بأننا عدنا للنشاط النووي العسكري، ومذكور في هذه التقارير أن كرة اليورانيوم تكون على شكل نصفين أطلقوا عليها في هذه التقارير قبة، ونحن في العراق لا نطلق عليها قبة، وإنما نصف كرة.
بعد ذلك استولى حسين كامل على مجمل المهندسين والعلماء وحولهم إلى هيئة التصنيع.
* ساهمت أيضاً بجرد وثائق المشروع النووي العراقي؟
نعم، وكان ذلك قبل الضربة بشهور فقط، وكنت قبلها أقوم بمتابعة العلماء والمهندسين الموفدين للخارج، وأصنف تقاريرهم بترقيم سري متقن، وأوزعها على عدد محدود.
في عام 1990 اشتريت جهازين جديدين من اليابان لتخزين الوثائق على قرص مغناطيسي، ووصل الجهازان لبغداد ليلة الدخول إلى الكويت 2 أغسطس /آب 1990، وقمت بتخزين الوثائق الموجودة عندنا على قرص، وأخذناها إلى ثانوية بالقرب من الطارمية، فيها غرفة داخل غرفة وداخلها غرفة صغيرة جدا لأغراض تحميض الأفلام.
عندما جاء مفتشو الوكالة الدولية 1991 أخرج جعفر الوثائق من الغرفة، ووضعها في قطار يسير بين البصرة والموصل وبغداد في قطارة محكمة الغلق. طلب المفتشون من العلماء تفصيلات فنية، فاشتكوا لجعفر عدم وجود الوثائق؛ مما قد يتسبب بإعطاء معلومات مغلوطة، فأرسل جعفر الوثائق إلى بناء اتحاد العمال، وعلم المفتشون بالمكان فداهم المفتش ديفيد كاي المكان وحصل على الوثائق.
* هذه الوثائق المكتوبة. أين الأقراص الإلكترونية؟
نسخت ثلاث نسخ، وكانت بعهدتي إلى أن أمرني جعفر بإعطائها للدكتور عبد الحليم حجاج، فأعطيته نسخة، وبقيت لدي نسختان.
وبعد أن انتقلت عام 1991 إلى وزارة الخارجية للعمل مع الوزير محمد سعيد الصحاف، أتى عبد الحليم، وطلب مني سيديات أخرى، وأعلمني أنه أعطى النسخة التي سلمتها له لمفتشي الوكالة الدولية.
* هل هناك وثائق أخرى تم الكشف عنها؟
حاصر المفتشون مبنى الخيرات قرب فندق الشيراتون، وفتشوا الكمبيوتر في المبنى، ووجدوا فيه معلومات عن منتسبي الطاقة الذرية، كما حصلوا على تقرير عن مشروع القنبلة النووية للمرحوم خالد سعيد، وعلموا أيضا أن هناك منشأة نجت بالكامل من القصف؛ هي منشأة الأثير، وكانت مصممة بشكل مبدع لإخفاء وظيفتها، ففجر المفتشون المبنى أمام العلماء والمهندسين.
نتائج المغامرة:
عندما توقف المشروع النووي العراقي عام 1991 كانت نسبة ما تم إنجازه لا تتعدى عشرين بالمئة على صعيد التخصيب، في حين أن تصميم القنبلة ونظام التحكم والسيطرة عليها ونظم التوجيه والإطلاق والصواريخ اللازمة لحمل هذه الوزن "كل هذا كان في بداياته". وكان ما حصل عليه العراقيون خمس غرامات في حين المطلوب لتصنيع قنبلة من 18 إلى 20 كيلوغراماً. ومع ذلك يصر الكثير من العلماء العراقيين أنهم كانوا بطور نتائج مهمة، لو لم يحصل العدوان الأميركي 1991 ومنهم من يقدر أن المدة المتبقية لهم لصنع قنبلة ذرية كانت عدة أشهر إلى سنتين. "تقدمنا بسرعة مطردة خلال 88-89-90 وتمكنّا من تخصيب اليورانيوم إلى 90 بالمئة ولكن بكميات قليلة، غرامات فقط، وكنا في صدد نصب بقية الفاصلات التي تنتج بسرعة أعلى وأيضاً بنينا موقعاً بديلاً مطابقاً لموقع الطامية في الشمال".