على هامش حراك "20 سبتمبر" في مصر

30 سبتمبر 2019
+ الخط -
انتفض المصريون مجدّداً بعد ست سنوات عجافٍ من القهر والصمت، وهي السنوات التي حاول فيها الجنرال عبد الفتاح السيسي بناء جدارٍ مرعبٍ من الخوف والظلم عبر سياساته القمعية التي تراوحت، ولا تزال، ما بين اعتقال، واختفاء قسري، وتصفية، وقتل، ومداهمة للمنازل، وترويع للأطفال والنساء، وتلفيقٍ للاتهامات، وأحكام بالإعدام. وكنّا قد ظننا، خطأ، أن الشعب المصري قد ابتلع الخوف بداخله وسكت، وأنه لن تقوم له قائمة بعد سنوات الدم والرصاص. ولكننا فوجئنا بأن قطاعاً كبيراً من هذا الشعب بدأ يتحرّك وينتفض، ويخرج إلى الشوارع والميادين، ويهتف بما لا يمكن للسيسي أن يتخيّله أو يستوعبه، وأن يطالبه بالرحيل. وفجأة وبدون مقدمات، سقط جدار الخوف، وسقطت معه لافتات السيسي التي تم إحراقها وركلها بالأقدام في عدد من الأماكن والمحافظات على طريقة ما حدث مع حسني مبارك إبّان ثورة يناير 2011.
نظرة سريعة إلى ديناميات الاحتجاجات التي بدأت في 20 سبتمبر/ أيلول الجاري، والمتواصلة بوتيرة وأشكال مختلفة، تخبرنا ما يلي: أولاً، إننا إزاء انتفاضة بدأت بالأساس في الأطراف، وذلك بالمعنييْن السياسي والجغرافي، ولم تبدأ من المركز، مثلما كانت الحال مع ثورة يناير في العام 2011، فبالمعنى السياسي، لم تنطلق شرارة الحراك الحالي من أحزاب أو تيارات أو جماعات أو شبكات سياسية، وذلك على غرار حركة 6 إبريل أو الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) أو شبكة خالد سعيد أو الجمعية الوطنية للتغيير التي أشعلت ثورة يناير قبل ثمانية أعوام، وإنما جاءت الشرارة من خارج التوقعات، ومن داخل النظام نفسه، ممثلاً في ظهور المقاول ورجل الأعمال، محمد علي، الذي رفع، وبشكل مفاجئ، الغطاء عن حالة الفساد والإفساد المالي والاقتصادي والسياسي في قمة هرم السلطة في مصر، وأكدها واعترف بها 
الجنرال السيسي على الملأ وبحضور مسؤوليه وأنصاره ومؤيديه. وكان لخطاب علي، الجريء والبسيط في آن، وتحدّيه السيسي، دورٌ مهم في تحريك مشاعر الغضب والرفض التي تراكمت في نفوس المصريين منذ وصول السيسي إلى السلطة قبل خمسة أعوام. وللحق، لم يكن ظهور علي، بغض النظر عمّا إذا كان عفوياً أو مرتّباً، سوى شعلة صغيرة تم إلقاؤها على برميلٍ من البارود فاشتعل وانفجر، ولا تزال شظاياه تصل إلى الكثيرين.
وبالمعنى الجغرافي، وعلى العكس من ثورة يناير التي لعبت فيها العاصمة، وخصوصا ميدان التحرير، دوراً مركزياً في فاعليات الثورة وديناميتها، فإن انتفاضة سبتمبر خرجت واشتعلت، ولا تزال، في الأطراف الحضرية والهوامش الريفية، فعلى مدار الأسبوعين الماضيين، انتفضت مرسى مطروح في أقصى الشمال الغربي لمصر، والأقصر وقنا وسوهاج في أقصى الجنوب، والسويس في أقصى الشرق، والمنصورة ودمياط في قلب الدلتا المصرية.. إلخ. وفي وقتٍ ركّز النظام وقواته الأمنية على إغلاق الميادين والساحات، خوفاً من أن يحتلها المحتجون وتكون النهاية، فقد اشتعلت الأطراف وسجّلت حضورها بقوة، وهو ما يتطلّب قراءة متأنية لفهم دلالاتها ودورها في ديناميات الحراك الحالي ومستقبله.
ثانياً، الانتفاضة الحالية لا يقودها أبناء الطبقة الوسطى، أو الشريحة العليا منها، كما كانت الحال مع ثورة يناير، ولكن الطبقة الدنيا تمثّل عصبها الرئيسي، وهي الطبقة التي طحنت السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي يطبّقها نظام السيسي أبناءها. وقد خرج هؤلاء بعد أن سقطت سردية السيسي ونظامه في عيونهم، وهو الذي كان يدّعي دوما "الفقر والعوز"، بينما يرفل، هو وعائلته وحاشيته، في حياة باذخة بين القصور والفلل والمدن الجديدة! كثيرون من الذين خرجوا لا يتمتعون بالحد الأدنى من الحياة المعيشية، ولا يعرفون من الدولة سوى وجهها القبيح، ممثلاً في عصا الأمن الغليظة، حين ينتفضون احتجاجاً على ظروفهم المعيشية، وهم يعانون اقتصاديا واجتماعيا وخدمياً، فمن احتجوا في القاهرة خرجوا من مناطقها وحواريها وأزقتها المهمّشة في الورّاق وحلوان والمطرية، وهي مناطق مكتظة سكانياً، وفقيرة تنموياً، 
ومهمّشة اقتصادياً واجتماعياً. وهم أقرب إلى من وصفهم آصف بيات باللاحركات الاجتماعية، وهي مجموعات بشرية غير منظمة وغير مؤطّرة سياسيا وإيديولوجيا وفكرياً، تخرج بشكل مفاجئ كي تعبر عن سخطها ورفضها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القائمة، وتعلن تمرّدها ومقاومتها لها، ويصبح الخروج إلى الشارع السبيل الوحيد أمامها. هؤلاء لا يستطيع النظام، وجحافله الأمنية، التعاطي معهم بالطريقة نفسها التي يتم التعاطي بها مع النخب السياسية، من خلال التشويه والشيطنة والتخوين والاعتقال. وهذه الكتل واللاحركات يصعب تعقبها ومعاقبتها، بسبب عدم وجود سجلات سياسية أو ارتباطات تنظيمية لها، فهم يعيشون على الهامش، وباستمرارهم في الاحتجاج والرفض للنظام الحالي سوف يمثلّون صداعاً شديداً له ولقواته، وسوف تتسع رقعتهم، كلما اكتسبوا الثقة والجرأة بمرور الوقت.
ثالثاً، لم تعد تكتيكات الاحتجاج وأدواته صعبة أو معقدّة، كما يظن النظام وأجهزته، بل على العكس، فقد نجح محمد علي في أن يهزّ عرش السيسي عبر هاتف وكاميرا! ومثله فعل كثيرون، (ولا يزالون) يستخدمون الأدوات نفسها في الاحتجاج وكسر حاجز الخوف، ومشاركة مشاعرهم مع غيرهم من الغاضبين والرافضين لسياسات النظام الحالي، ويطالبون برحيله. كما أنه في ظل حالة القمع الأمني والسيطرة الإعلامية للنظام على الصحف والقنوات والمجلات، أصبح "العاديون" صنّاع الخبر وناقليه عبر كاميرا هواتفهم النقّالة التي تصل إلى كل أنحاء العالم في دقائق قليلة.
رابعاً، إذا كانت دوافع الانتفاضة الحالية مرتبطةً بالظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمر بها غالبية المصريين، إلا أنها في عمقها انتفاضة سياسية (هذا إذا ما افترضنا أصلاً أن ثمّة فصلا بين السياسي والاقتصادي). حيث أنها تستهدف رأس النظام وتطالب برحيله، ولا تطالب بعمل إصلاحاتٍ أو تغييراتٍ في سياساته وإجراءاته. وهو ما يمثل قمّة العمل الثوري والاحتجاجي الذي يهدف إلى تغيير المنظومة بأكملها، وليس بترقيعات هنا وهناك. ولا يمكن 
بحال اختزال الحراك الحالي في مجرد الرفض والغضب من فساد السيسي وحاشيته في مسألة القصور، فهذه القضية ليست سوى الفتيل الذي أشعل نار الغضب الذي راكمته نفوس كثيرة طوال السنوات الست الماضية.
وأخيراً، لا تسقط الأنظمة السلطوية بالضربة القاضية، ولكنها تسقط بالتدريج، وعبر عمل سياسي متراكم ومتواصل. هكذا يُعلّمنا التاريخ القريب. فالرئيس السابق حسني مبارك لم يسقط في 11 فبراير/ شباط 2011، وإنما قبل ذلك بحوالي ست سنوات، وتحديداً مع أول صرخة أطلقها المناضل اليساري كمال خليل (المعتقل حالياً) في مظاهرة نظمتها حركة كفاية أمام جامعة القاهرة في يناير/ كانون الثاني من عام 2005، وكان شعارها الأثير "لا للتمديد، لا للتوريث". وكذلك الأمر مع الديكتاتور السوداني عمر البشير الذي سقط في إبريل/ نيسان من العام الجاري، نتيجة لنشاطية سياسية دؤوبة، استثمرت في غضب شعبي متراكم خلال السنوات الست الماضية، وتحديداً منذ احتجاجات سبتمبر/ أيلول 2013 التي خرجت في الخرطوم وأم درمان. كذلك لم يستقل الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، من منصبه نتيجة الاحتجاجات التي خرجت منذ أواخر فبراير/ شباط الماضي فحسب، وإنما سقط الرجل من عيون مواطنيه قبل ذلك بعدة أعوام بسبب إصراره على التمسك بالسلطة، على الرغم من مرضه وإفلاس مشروعه السياسي، وارتفاع تكلفة إصلاحاته الاقتصادية التي تسببت في احتجاجات عديدة بدأت منذ أواخر عام 2016 بعد فرض رسوم وضرائب جديدة، خصوصا في بلديات بجاية والبويرة وتيزي وزو وغيرها. وما سبق يعني أن تغيير الأنظمة الديكتاتورية لا يحدُث فجأة، وإنما بالمقاومة المتواصلة، وذلك إلى أن تأتي اللحظة المناسبة التي يصبح فيها السقوط أمراً حتمياً.
خلاصة القول، ما فعله المصريون في 20 سبتمبر نقطة تحول مهمة في الوعي الجمعي. وهي بمثابة البداية على الطريق الطويل لتغيير النظام الديكتاتوري الحالي الذي أصبح رحيله مسألة وقت، فقد أصبحت انتفاضة سبتمبر ككرة الثلج التي تكبر كلما تدحرجت، ولن تقف إلا برحيل السيسي وعائلته ورجاله، وغيابهم جميعاً عن المشهد. وهذا ليس ضرباً من الخيال، أو رجماً بالغيب، ولكنه قدر الطغاة والمستبدين في بلادنا وغيرها، وإن غداً لناظره قريب.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".