يشكّل علماء الدين الأفغان هدفاً لعمليات الاغتيال بشكل مستمر، ويدفع العديد منهم ثمناً باهظاً لرفع أصواتهم ضدّ ما يجري في البلاد، وضدّ الجماعات المسلحة التي تستبيح دماء كل من يعارضها، من دون تمييز بين مؤيد أو معارض للحكومة.
وما يزيد الخطورة على حياتهم أنّ الحكومة الأفغانية تطالب علماء الدين بالوقوف إلى جانبها مع القوات المسلحة ومساندتها، لإخراج البلاد من المأزق الأمني الحالي، لكن دون أن تقدم لهم الحماية اللازمة لذلك، على الرغم من الوعود المتكررة للرئيس الأفغاني محمد أشرف غني بتوطيد العلاقات بين الحكومة وعلماء الدين.
مع ذلك، يوجد بين علماء الدين من يرفع صوته ضدّ الظلم والوضع المأساوي في البلاد. وفيما يدعو بعض هؤلاء، خلال الاجتماعات والندوات والمؤتمرات، أطراف الصراع إلى العودة للحوار وإيجاد حل سلمي للأزمة الأمنية، يؤكد آخرون أن الوقوف إلى جانب القوات المسلحة وإعلان تأييدها هو الحل، لاستئصال جذور العنف، معتقدين أن الحرب الحالية في أفغانستان حرب بالإنابة بين دول المنطقة، وأن بعض القوى الدولية ترغب في استمرار دوامة الحرب للوصول إلى أهدافها، وبالتالي لا بد من تبني موقف واضح وصريح إزاء الجماعات المسلّحة التي ترفض العودة إلى الحوار بحجة أو أخرى.
وبهذا الخصوص، انعقد قبل أيام اجتماع في العاصمة الأفغانية كابول، شارك فيه لأول مرة المئات من علماء الدين من مختلف مناطق أفغانستان. وحظي الاجتماع باهتمام كبير من قبل الحكومة ووسائل الإعلام، واعتبر الحرب في أفغانستان غير شرعية، بل حرب تحمل أغراضاً سياسية. وأكّد الاجتماع الذي شارك فيه حوالي 1500 عالم دين، أن قتل المدنيين الأبرياء أمر غير شرعي يخالف تعاليم الإسلام. كما طالب المشاركون الجماعات المسلحة، وعلى وجه الخصوص حركة "طالبان"، بالحوار مع الحكومة الأفغانية، مشدّدين على أن الحل العسكري للأزمة الأمنية الأفغانية غير مجدٍ، ولن يؤدي إلى أي نتيجة سوى القتل والدمار.
وأكّد المتحدث باسم مجلس شورى العاصمة كابول، المولوي عطاء الله فيضاني، أن الحرب المستعرة في أفغانستان، حرب داخلية بين المسلمين، ليس لها صفة شرعية. وأشار إلى أن "مواصلة دوامة الحرب لا تأتي على هذا الشعب سوى بالويلات، وهذا ما يدركه جميع أطراف الحرب، لذا لا بد من إيجاد حل سلمي، وهذا لا يمكن إلا من خلال حوار أفغاني، شامل لجميع الأطراف".
وحظي هذا الاجتماع باهتمام كبير من قبل الحكومة الأفغانية. وأشار إليه الرئيس الأفغاني، أكثر من مرّة، شاكراً علماء الدين على إبراز موقفهم حيال الحرب الحالية، معتبراً أن علماء الدين الأفغان دخلوا على خط المساعي المناهضة للجماعات المسلحة، والرامية إلى القضاء على الصراع القائم في البلاد.
وعند زيارة رئيس الوزراء الباكستاني، نواز شريف كابول، كان من أبرز ما أشار إليه الرئيس الأفغاني أنشطة علماء الدين المؤيدة للحكومة والمناوئة لحركة "طالبان"، وقال غني: إن حكومته تحظى بدعم من الشعب وعلماء الدين، وبالتالي هي قوية و قادرة على مجابهة التحديات، وفي مقّدمتها التحدي الأمني.
في المقابل، رحب رجال الدين بإعلان الرئيس الأفغاني توظيف مئات العلماء وأئمة المساجد في وزارة الشؤون الدينية، وتكليفه الوزارة بإعادة النظر في التعامل مع الجمعيات الدينية وعلماء الدين وأئمة المساجد. وكان الرئيس الأفغاني قد جدد عزم حكومته على القضاء على الفجوة الموجودة بين الحكومة وعلماء الدين، إذ أن عدم التنسيق بين الطرفين لا محالة يصب في مصلحة المتآمرين على أجهزة الدولة، على حد وصفه.
غير أنّ تحرك العلماء وتقربهم مع الحكومة أثار غضب الجماعات المسلحة التي تستهدف كل من يؤيد الحكومة، سواء كان عالم دين أو شيخ قبيلة، وبالتالي ارتفعت وتيرة الاستهدافات والهجمات على علماء الدين، كان آخرها الهجوم الانتحاري على اجتماع لعلماء الدين في مسجد قرب مقر حاكم إقليم هلمند في مدينة لشكر كاه، والذي أسفر عن مقتل عدد من العلماء وعامة المواطنين. وكانت حركة "طالبان" قد أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم الانتحاري الذي وقع على مسجد داخل مقر إدارة الحج والأوقاف، حيث كان العلماء يعقدون اجتماعهم الدوري، وكان من بين القتلى رئيس مجلس شورى العلماء في إقليم هلمند المولوي خداي نظر.
أثار الهجوم استياء الشعب الأفغاني، كما أعربت البعثة الأممية لدى أفغانستان عن قلقها الشديد حيال سقوط المدنيين بين قتلى وجرحى في أعمال عنف تبنت بعضها حركة "طالبان أفغانستان".
بيد أن كل تلك الهجمات والاغتيالات ضدّ علماء الدين لم تجبرهم على خفض أصواتهم إزاء ما يجري في البلاد، إذ توالت اجتماعات العلماء في مختلف مناطق البلاد، بشأن الوضع الأمني الآخذ في التردي، خصوصاً بعدما أعلنت "طالبان" عملية الربيع المسماة بحملة "عزم". فيما ردّت قوات الأمن الأفغانية بعمليات معاكسة ضدّها في الجنوب، سمتها بعملية "بدر".
وفي 17 من شهر مايو/أيار الجاري، عقد العشرات من علماء الدين اجتماعاً في إقليم غزنة، طلبوا خلاله من الجماعات المسلحة وقف العنف، والخروج من مأزق الحرب التي وصفوها بالأجنبية. وأكد المشاركون أن استهداف وقتل رموز الدين لن ينفع أحداً إلا الأعداء، وبالتالي نطلب من "طالبان" أن تتجنب كل ما يضر هذا الشعب.
اقرأ أيضاً: اغتيال رجل دين أفغاني: ضرب التحالف مع الحكومة