"إنها وسيلة خطرة، عانينا منها... ولَعَلّكُم تذكرونَ أنّ من أهم عوامل الفتنة التي انتشرت في بلادنا كانت وسائل التواصل"، لم يكن كلامُ توفيق محمد سعيد رمضان البوطي هذا، يوم الجمعة 14 يونيو/ حزيران، عن منبر جامع بني أمية الكبير بدمشق، إلا صدى لكلمات رئيس النظام السوري، بشار الأسد، والذي اعتبر قبل حوالي أربعة أشهر أنّ "وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت بشكل ما في تردي الأوضاع في البلاد"، مضيفاً "نحن أمام الجيل الرابع من الحروب".
النظام: مواقع التواصل أصل البلاء
فيما يُحَمّل مسؤولو نظام الأسد، مواقع التواصل، مسؤوليّةً كبيرة في اندلاع الاحتجاجات في سورية سنة 2011، إلا أنّ هؤلاء، من أعلى هرم النظام إلى أدناه، دائماً ما يبدون تخوفهم من مواقع التواصل، لكونها "مستحيلة الضبط" من قبلهم، وتُتيح نوعاً من حريةٍ "غير مرغوب بها" في عقلية النظام الأمنية. خصوصاً بعدما زاد توجسهُ من "مواقع التواصل" مع بداية الثورة لكونها أتاحت للناشطين المعارضين، نشر روايتهم، والتنسيق في ما بينهم، بعيداً عن رقابة أجهزة الأمن، التي كانت تحجب "فيسبوك" منذ سنة 2007، و"يوتيوب" منذ عام 2009، تماماً عن المستخدمين في سورية، قبل أن يُرفع الحجب سنة 2011.
يعتقد مهندس الكمبيوتر ياسر الشامي (اسم مستعار)، وهو يُدير عدة صفحاتٍ وحساباتٍ لمؤسسات سورية في مواقع التواصل، أنّ "سبب رفع المخابرات للحجب في سنة 2011، جاء ليتيح استخدام هذه المواقع من قبل أنصار النظام، والذين كان معظمهم يجهل ضرورة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لإظهار رواية النظام في هذه المواقع التي باتت منصات لحشد الجمهور، ولها أهمية قد تفوق ما تضخه وسائل الإعلام التقليدية الكبرى".
تتفق مع هذا الكلام، الصحافية السورية المقيمة في تركيا، نور دالاتي. إذ تقول لـ"العربي الجديد"، إن النظام و"مع بداية الثورة السورية، حاول استنساخ صفحات تنسيقيات المعارضة وآليات عملها، بعد أن أحدثت أول خرق في التغطية الإعلامية الرسمية لما يحدُث". وتضيف "كان توجّه النظام للدفع باتجاه إنشاء شبكات أخبار محلية تنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي في المدن والبلدات وحتى أصغر القرى لتمرير روايته للأحداث، ومواجهة رواية صفحات التنسيقيات ووسائل الإعلام الناشئة؛ فسرعة انتشار الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة وصول الناس إليها كانا في صلب احتياجات النظام الإعلامية للتأثير في المجتمعات المحلية، ضد ما كانت تنشره وسائل الإعلام العربية الكبرى آنذاك".
اقتحام المحظور
مع كثرة التطورات في سورية يومياً خلال السنوات القليلة الماضية، وَجد النظام أن كفّة معارضيه ترتفع عالياً في تسويق روايتهم عبر مواقع التواصل. هنا، يعتقد ياسر الشامي، خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "مسؤولي النظام وضعوا خطة لتشجيع أنصارهم على اقتحام عالم مواقع التواصل، فهؤلاء منضبطون تماماً برواية (القيادة)، ومتحمسون لنشرها والدفاع عنها، لتكون رواية مضادة لرواية صفحات الثورة التي تكاثرت، وتكاثر متابعوها بصورة كبيرة جداً".
هذا فيما تقول الصحافية دالاتي إنّ "النظام يخشى ما يرد عبر وسائل التواصل الاجتماعي من الخارج، وتأثير وسائل الإعلام المعارضة ووصولها إلى الموالين، لكنّه لا يخشى وسائل الصفحات أو الشبكات التي تنشط في مناطق سيطرته، لأنه يتحكم بها، ويدير أغلبها أشخاص معروفون بولائهم له". وتضيف أنّ "أغلب الشبكات المحلية الموالية للنظام تقوم على تمجيد قواته والدفاع عنه دون الحد الأدنى من المعايير المهنية، التي تُلزم وسائل الإعلام الرسمية بها، وبالتأكيد تشكل تلك الشبكات فسحة أكبر لتعزيز خطاب الكراهية تجاه المعارضين من السوريين".
وتعتبر دالاتي أنّ "النظام نافس من خلال تلك الشبكات وسائل إعلام المعارضة على الخبر المحلي داخل مناطق سيطرته، بدليل أنها كانت مصدراً حتى لوسائل إعلام المعارضة في ما يتعلق بالتغطيات الخدمية وتقييم الوضع الاقتصادي (الكهرباء، الماء، الأسعار.. إلخ)".
توجسٌ دائم
نجحت صفحاتٌ كثيرةٌ موالية للنظام السوري في "فيسبوك"، تأتي على رأسها "دمشق الآن"، بالإضافة إلى صفحات محلية لمدن وبلدات وقرى، في جذب مئات آلاف المتابعين داخل سورية وخارجها؛ بالتزامن مع تراجع أعداد المتابعين لصفحات الثورة المعروفة، مثل "الثورة السورية ضد بشار الأسد"، ومختلف صفحات "التنسيقيات".
لكنّ ارتفاع أعداد المتابعين والمتفاعلينَ مع الصفحات الكبرى الموالية للنظام، أعاد كما يبدو التوجّس لديه، خصوصاً مع ارتفاع نبرة بعض هذه الصفحات في انتقاد "الحكومة ووزرائها والفساد". ورغم أنّ الانتقاد لم ولا يمكن أن يصل لشخص رئيس النظام، لكن تسربل بين ثناياه، انتقاداتٌ بدت أعلى من المسموح به.
بين هذه الانتقادات مثلاً، ما وُجّهَ مراراً لوزارة الدفاع في حكومة النظام، خصوصاً أيام الوزير السابق، فهد جاسم الفريج، على خلفية خسائر بشرية كبيرة في معارك عديدة، وغير ذلك. كما أن الانتقادات التي كانت تصل ذروتها مع ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وفقدان هذه المواد من السوق أحياناً، يبدو أنها تجاوزت حد "التنفيس" المسموح به، خصوصاً مع أزمات نقص المحروقات، مثل الغاز والبنزين والمازوت.
وحول ذلك، تقول الصحافية نور دالاتي إن "الشبكات المحلية لم تتجاوز الخطوط الحمراء إلا عندما أُتيح لها هامش متعمد لذلك، وتم ذلك التجاوز في مواضيع خدمية وقضايا فساد على مستوى صغير وانتقادات حكومية طاولت أحد الوزراء في أقصى الأحوال". وتعتبر أنّ "النظام كان يُتيحُ هذا الهامش لإكساب تلك الشبكات ثقة محلية وجعلها مجالًا للتنفيس، وتمرير روايته بالوقت ذاته"، لكنها تستدرك: "حاليًا وبعد سيطرة النظام السوري على أغلب مساحة سورية، ونتيجة التغيرات السياسية على الساحة الدولية، بات النظام أكثر اطمئناناً، وبالتالي انتهت فترة خدمة هذه الشبكات".
"الطير" الذي ارتفع فَوَقَعْ
في هذا السياق، يبرز اسم وسام إسماعيل (الطير) الذي كان يُدير منذ ثماني سنوات صفحة "مساكن الحرس الجمهوري"، لكنه طَوَّرَ نشاطه ليؤسس سنة 2012 صفحة "دمشق الآن" في "فيسبوك"، والتي باتت المنبرَ الأول محلياً في الموقع الأزرق، للترويج لرواية النظام حول مختلف التطورات الميدانية والاقتصادية والسياسية في سورية.
لكن "الطير" الذي جمعته علاقاتٌ متنوعة ومتشعّبة بين أركان النظام، ويرفع في أعلى حسابهِ الشخصي في "فيسبوك" صورةً جمعته مع زوجة رئيس النظام السوري، أسماء الأسد، وبدا أنه مدعومٌ من قبله لما قدّمهُ من خدماتٍ إعلامية لترويج روايتهم عمّا يحدث من تطورات، لا يزال مسجوناً في مكانٍ مجهولٍ في أحد أقبية المخابرات السورية منذ ستة أشهر، من دون معرفة السبب الحقيقي لذلك، رغم وجود رواياتٍ عديدة.
وتوفي والد وسام، قبل أسبوعين بعدما "أخبروه أخيراً باعتقال وَلَدِهِ المُجاهد، فانهار وتم نقله إلى أقرب مستشفى حيث فارق الحياة"، وذلك بحسب ما كتب شقيق "الطير" الذي تتناقل حاضنة النظام الشعبية بأن "قصتهُ كبيرة"، ولذلك "اختفى وراء الشمس" في معتقلات من بقي يدافع عنهم لسنوات، ويكذّبَ أو يوارب في إخفاء رواية وسائل إعلام المعارضة، حول المعتقلات والمجازر.
Facebook Post |
وقبل سَجنهِ في دمشق بيومٍ واحد، أعلن "الطير" في حسابه، يوم الرابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2018، أنه و"ابتداء من الغَد .. ستبدأ شبكة دمشق الآن، سلسلة استطلاعات رأي عبر مجموعتها الرسمية بهدف قيام الشارع السوري بتقييم أداء الوزارات الحكومية للعام 2018 من حيث خدمتها له بالإضافة لعدة استطلاعات متنوعة"، لكن استطلاعاً واحداً لم يُنشر.
ربط العديدُ من الناشطين السوريين، اختفاء "الطير" بهذه الاستطلاعات، ولكونه تجاوز الحد المسموح به بالنشر في وسائل التواصل، فأراد النظام، جعله درساً، رغم أن آخرين، رأوا خلاف ذلك.
Facebook Post |
ويعتبر محمد غزاوي، وهو ناشطٌ سوريٌ معارض، ومطلعٌ على الموضوع، أن "وسام الطير تجاوز خطوط النظام الحمراء. والنظام أراد القول إن لا كبير عندي، حتى أشد الموالين سيدخلون المعتقلات إن تجاوزا التعليمات.. ربما أراد النظام جعله درساً لأنصاره الذين باتوا أكثر جرأة في انتقادهِ مع تزايد استخدامهم وسائل التواصل".
لكنّ "الطير" ليس وحده من عوقب. فصحافيون آخرون اجتهدوا لسنواتٍ في سرد رواية النظام أوقفوا عن العمل، مثل رضا الباشا، مراسل قناة "الميادين"، لتجاوزه على ما يبدو سقف "الخطوط الحمراء". لكن وسام الطير، يبقى أشهر مَن لَمعَ نجمه في تسويق رواية النظام، بمواقع التواصل الاجتماعي.
وتقول الصحافية نور دالاتي "لا أتوقع أن وسام الطير كان درساً... هناك الكثير من الصحافيين على غرار وسام الطير تحدثوا عن الفساد والتقصير الحكومي، وانتقدوا مسؤولين، والطير لم يقترب من نقد قوات النظام أو رئيسه، بل على العكس كان مقربًا لهما. أعتقد أن قضية الطير شخصية، قد تتعلق بتجاوزات خاصة به كشخص أصبح لديه وصول وعلاقات متنوعة، ربما استخدمها في ما لا يرضي النظام".