لم يكن متوقعاً قبل عقد من الزمن أن يمشي وزير خارجية الولايات المتحدة، إلى جانب وزير خارجية إيران، على طول نهر رون في جنيف خلال استراحة التفاوض، أو أن يخلع وزير خارجية أميركي سترته وربطة عنقه ويسير في شوارع هافانا. تمكن جون كيري من كسر هذه المحرمات الرمزية في السياسة الأميركية، فيما واصل رئيسه باراك أوباما إدخال واشنطن في زمن المصالحات مع الأعداء ضمن مسار لن يكتمل قبل انتهاء ولايته العام المقبل.
اقرأ أيضاً: أوباما يطمئن حلفاءه تجاه النووي لإجهاض أي تحرّك داخلي
سرّ نجاح أوباما في إنجاز هذه المصالحات كان توفر معطيات موضوعية وظرفية، لعل
أبرزها تحرره من القيود والحملات السياسية خلال ولايته الثانية وبعد انتخابات الكونغرس النصفية العام الماضي. أما العامل الأساسي الآخر المساعد فهو تولي جون كيري منصب وزير الخارجية، حاملاً معه ولاء مطلقاً لأوباما مقابل ثقة مطلقة وفرها البيت الأبيض لكيري على عكس ما كان الحال مع هيلاري كلينتون قبله. وهناك أيضاً، معطيات ظرفية مساعدة، مثل مبادرة البابا فرانسيس التي مهدت لطوي صفحة العداء بين واشنطن وهافانا، وانتخاب الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي كان مؤشراً لفتح قنوات الاتصال بين أميركا وإيران.
منذ وصوله الى الحكم، حاول كثيرون في واشنطن تعريف "عقيدة أوباما" في السياسة الخارجية. على عكس غيره من الرؤساء الأميركيين، لم يكتب مبادئه في السياسة الخارجية في وثيقة توجّه عمل إدارته. كان يحتاج الى مرونة تعكس مزاج جيله؛ جيل ما بعد الحرب الباردة الذي تجاوز زمن الإيديولوجيات والعداوات. في البداية كانت فكرة أوباما "عدم التدخل" أو فك الارتباط العسكري مع العراق وأفغانستان، وشن حروب عبر طائرات بدون طيار بدل نشر الجنود الأميركيين على الأرض، وذلك ضمن استراتيجية أوسع تقلص ميزانية وزارة الدفاع "بنتاغون". كان يقول إن واشنطن لا يمكنها "استخدام جيشها لحل المشاكل الإنسانية"، وإن "منع إبادة جماعية محتملة في العراق ليس سبباً كافياً لابقاء القوات الأميركية هناك". لكنه في المقابل سمح بعملية عسكرية أطاحت بنظام معمر القذافي في ليبيا بعد تهديده بنغازي بالإبادة، وأعطى الضوء الأخصر والحصانة لاستخباراته لقتل أي أميركي في الخارج يعمل لصالح مجموعات إرهابية.
وصفه خصومه في واشنطن بأنه "ساذج" في السياسة الخارجية، وأنه قام بـ"جولات اعتذار" حول العالم خلال ولايته، وأنه يحاول استرضاء خصوم أميركا وتهميش حلفائها.
غير أنّ المناسبة الأهم التي اقترب فيها أوباما من تعريف "عقيدته" كانت خلال مقابلته الأخيرة مع الكاتب في صحيفة "نيويورك تايمز" توماس فريدمان، إذ اعتبر أن الولايات المتحدة قوية لدرجة أنه ليس عليها الخوف من الانفتاح على خصومها. تحدث عن كوبا بأنها بلد صغير، لا يشكل تهديداً لواشنطن، وبأن ميزانية إيران الدفاعية هي 30 مليار دولار، مقابل ميزانية دفاعية أميركية تصل الى 600 مليار. قبل أن يختصر عقيدته بالقول "نحن ننخرط دبلوماسياً، لكننا نحتفظ بكل قدراتنا (لا سيما العسكرية)".
ظل رهان أوباما أن الانخراط الدبلوماسي يلغي ورقة العداء لأميركا التي تلعبها هذه الأنظمة، كما ينهي عزلة هذه البلدان ويعطي شعوبها، التي لا تكره أميركا بالضرورة، فرصة أن تتنفس قليلاً، وتحاول أن تقود إصلاحاً تدريجياً لأنظمتها السياسية. غير أن مشروع أوباما يبدو طويل الأمد، ولا نتائج فورية له، والمثال تجربة بورما.
اقرأ أيضاً: افتتاح السفارة الكوبية في واشنطن اليوم: طيّ العداء رسمياً
قبل إيران وكوبا، كان التحوّل الرئيسي الأول في نهاية عام 2011، عندما زارت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون بورما بعد خمسة عقود من عزلة النظام فيها، قبل رفع إدارة اوباما العقوبات عنها في صيف عام 2012. وهنا، تمثل نجاح إدارة أوباما في وجود رغبة ذاتية عند النظام بالانفتاح على معارضيه وعلى واشنطن.
لكن اليوم، بعد حوالي أربع سنوات، تتعرض بورما لنكسات متتالية. وعود التحول الديمقراطي انحسرت مع تصاعد العنف الطائفي وارتفاع حدة التوتر السياسي مع تراجع النظام في ميانمار عن الخطوات الإصلاحية التي قام بها في السنوات الأخيرة، عشية الانتخابات المتوقعة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
قبل أيام فقط، تفاجأ الكوبيون بالاستماع لأول مرة إلى وزير خارجية أميركي على التلفزيون العام يعطيهم دروساً في الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن كانت هناك شكوك في هافانا، لا سيما بين المعارضة؛ شكوك تتعلق بأن يؤدي الانفتاح الأميركي إلى تحوّل ديمقراطي سريع في الجزيرة.
لكن أبعد من رفع علم الولايات المتحدة فوق السفارة الأميركية، قد لا يكون هناك اوراق دبلوماسية أخرى في العلاقة مع هافانا. كذلك الأمر مع طهران. ليس هناك في المدى المنظور احتمال حدوث اختراق يحوّل المحادثات النووية إلى تطبيع دبلوماسي.
في فنزويلا، المسألة أكثر تعقيداً. منذ وفاة هوغو تشافيز في شهر مارس/آذار 2013 كان هناك محاولات انفتاح أميركية آخرها خلال قمة الأميركتين في باناما في شهر أبريل/نيسان الماضي، حين عقد أوباما لقاء ثنائياً مع الرئيس الجديد نيكولاس مادورو، الذي لخص الموقف خلال خطابه أمام القمة: "أحترمك لكن لا أثق بك. الرئيس أوباما". وليس هناك تبادل تمثيل دبلوماسي بين البلدين حالياً بعد اتهامات كراكاس للبعثات الأميركية بالتجسس. وما ساهم في توتير العلاقة أخيراً، إصدار إدارة أوباما قراراً تنفيذياً جاء فيه أن فنزويلا تشكّل "تهديداً للأمن القومي"، كما فرض عقوبات على سبعة مسؤولين في الحكومة الفنزويلية.
الخصم الأخير المتبقي لواشنطن هو كوريا الشمالية. كان التوقع أن تبدأ إدارة أوباما مسار انفتاحها عام 2009، لكن ردّ بيونغ يانغ حينها كان إجراء تجارب نووية واستعراضاً لقوتها العسكرية. وكانت أول زيارة لمسؤول في إدارة أوباما إلى بيونغ يانغ عبر الممثل الأميركي الخاص لسياسة كوريا الشمالية ستيفن بوسورث في ديسمبر/كانول الأول 2009، تبعتها سلسلة لقاءات ثنائية بدون الوصول إلى نتيجة. بعدها وصل كيم جونغ أون إلى الحكم في نهاية عام 2011. وكان التقييم الأميركي أن هذا الشاب مهتم بإبراز قوته وتعزيز وضعيته الداخلية أكثر من إجراء تسوية نووية مع واشنطن تظهره ضعيفاً أمام قاعدته. وبالفعل، أعلنت كوريا الشمالية الشهر الماضي، أنها غير مهتمة بمحادثات نووية سداسية الأطراف شبيهة بالنموذج الإيراني، وبالتالي ليس هناك أرضية مؤاتية في هذا الملف لإدارة أوباما في المدى المنظور.