عقولٌ وثورة

02 سبتمبر 2014
+ الخط -

لا قيمةَ لعقلٍ، مهما كان فذّاً وعظيماً، ما لم يكن ثائراً في ظلّ استبدادٍ واضحٍ وجلي؛ فالاستبدادُ حقلٌ عاقرٌ لا يمكنُ للعقل أن يتنفّسَ فيه بيسر، ولا يمكنُ أن يؤدي دوراً فاعلاً في بناء العقول. إن أي عقلٍ يؤمنُ بالاستبداد حلاً، إما أن يكونَ عقلاً مريضاً في بعض جوانبه، أو أن يكونَ عقلاً جباناً، أو أن يكونَ عقلاً عاملاً في خدمة السُلطان.

الأفكارُ التي يُنتجها العقل، قد تبقى قيدَ التنظير والمشافهة، إن كان هناك ما يمنعُ تحوّلها إلى ممارسة وعمل، وقد تكونُ القوة الاستبدادية مبرّراً كافياً لمسألة عدم التحوّل تلك. لكن، إذا سنحت الفرصة، ولم تتمَّ عملية التحوّل، فلا شكَّ أن ذلك يعني خللاً لابدَّ من الوقوف عنده، لبحثه ودراسته، إذ يفرض ذلك علينا أسئلةً مهمةً، منها: لماذا بقيت الأفكار على حالها؟ لماذا بقيَ العقلُ على حاله تنظيراً لا أكثر؟

العقلُ الفذُّ الموغلُ في العلم والمعرفة الواسعة ينبغي أن يكونَ من أوائل العقول الداعية إلى إنهاء سلطة الاستبداد، وإزالة قيوده المفروضة على الفرد والمجتمع بعمومه، إذ لا وجودَ للفرد والمجتمع، بالمعنى الحقيقي للوجود، في ظل هكذا سلطة، ففيها يفقدُ كلاهما المعنى، فحتى نتمكّن، مثلاً، من إطلاق كلمة "موجود" على شيءٍ ما، ينبغي بدايةً، أن تتوفّر في هذا الشيء مقوّمات الوجود، كالحرية التي تكسب الكائن حقيقته ومعناه، ولكي نستطيع أن نحكم على أمرٍ ما بأن له "معنى" ينبغي أن يكون هذا الأمر حُرّاً وموجوداً وحقيقياً.

والعقلُ المعنيُّ يسعى إلى إنهاء هذه السلطة، كدفاعٍ عن نفسه، وعن دوره النقدي في التغيير والبناء، قبل أن يكون دفاعاً عن المجتمع الذي يعيشُ فيه ويتحرّكُ في إطاره؛ حيث لا تعني فعالية العقل الفردي شيئاً داخل إطارٍ اجتماعي ميت، فلكي تكون الكلمة ذات معنى وهدف، لابدَّ من وجود أذنٍ مؤهلة للإصغاء، ومدرّبة على فكِّ شيفرات تلك الكلمة. وبالتالي، تطبيقها إن كانت ذات قيمة، ولكي تستطيع الكلمة أن تتنفّس باطمئنان، لا بدَّ من وجود حياةٍ في الخارج. لذلك، العقل الفعّال ينبغي أن يكونَ مشاركاً، بل قائداً في عملية إزالة الاستبداد وقيوده، وإلا فإنه يخون نفسه، ويخون وجوده، ويخون رسالته، ودوره النقدي البنائي.

تشكل عملية اكتساب المعرفة على المستوى الفردي فعلاً ثورياً في الشخصية الفردية؛ فهي تعني الانقلاب، أو التحوّل في آليات عمل العقل، والثورة المعرفية الفردية التي قد يقوم بها أي فردٍ في شخصيته، تعني بداهةً الثورة على نمطية العقلية الاجتماعية، تلك النمطية التي تصبحُ ميتةً وساكنةً، بحكم تغذيتها، في ظل استبدادٍ أو قوةٍ سلطويةٍ فارضةٍ شروطها بوسائل الإكراه، وكلما اتّسع نطاق المعرفة لدى الفرد اتّسع نطاق الثورة على نمطية العقلية الاجتماعية، واتّسعت الرغبة في تغيير تلك العقلية، وتلك القوة السلطوية الاستبدادية، فهل يمكنُ لمثل هذا الفعل الثوري الفردي أن يقفَ ضدَّ الفعل الثوري الشعبي المشروع؟

قد تكونُ الإجابة، نعم ممكن، وذلك في الحالة التي قد تشهدُ خلافاً في المنهج والتوقيت، ولا يشكّلُ موقف الضد، هنا، عداوةً للفعل الثوري الشعبي، إنما يشكّلُ إخلاصاً للأهداف التي تسعى إليها الثورة، ورؤيةً مختلفةً لكيفية نجاحها، فالهدفُ واحد، ولكن طريقة العمل وظروفه وتوقيت انطلاقه مختلفة. أما في الحالة التي قد يُتخذ فيها موقف محايد أو موقف عدائي، أو موقف رمادي، أو موقف لاعب على طرفي الصراع، فذلك يضعنا أمام ثلاثة احتمالات: الجبن أو النفعية أو السلطوية، والاحتمالات الثلاثة تعني خيانة العقل نفسه، قبل أن تعني خيانته المجتمع الثائر، لأن تكوين العقل الفردي ذاتياً وبناءه وسط قيود الاستبداد، من المفترض، أن يُعرف على أنه ثورة، فهل تقفُ الثورة ضدَّ الثورة مادام الهدف واحداً، هو التغيير!

إن الجبن والنفعية الضيقة والتقرّب من مصادر السلطة الاستبدادية، سماتٌ لا يُفترض أن يتّسم بها العقلُ المفكّر تحديداً، إذ كيف يكون العقل مفكّراً ومسانداً أو مدافعاً عن الاستبداد في الوقت نفسه؟ وكيفَ يكونُ العقلُ مفكّراً ومتّسماً بالجبن، في الوقت نفسه، فلا يُبدي موقفاً تجاه الفعل الثوري الشعبي؟ وكيفَ يكون كذلك، مادامت النفعية الضيقة التي قد يحصّلها من القوة الاستبدادية هي التي تحدّد موقفه؟ تلك ازدواجيةٌ لا يمكنُ قبولها تحت أي ظرفٍ أو مبرّر، ولا يمكن أن تخفى على أحدٍ في ظلّ الثورة.

وتشكّلُ المقاييس والأطر النظرية المسبقة للفعل الثوري الشعبي عائقاً كبيراً أمام حركة العقول ذات التوجّهات المتباينة، إذ إن تبني كل عقل لرؤية معينة ومسبقة بشأن ما ينبغي أن تكون عليه الثورة، يضعه في حالة جمودٍ وشكّ، ما لم ينتهج الفعل الثوري الرؤية التي يؤمن بصوابيتها، ففي وقتٍ قد يمتدّ فيه الفعل الثوري، ليغطي مساحات شاسعة من جغرافية دولة معينة، نجدُ عقولاً تنسحب إلى قوقعاتها النظرية، لتعلن أن الثورة لا تسير بالصورة الصحيحة، ضاربةً بذلك الظروف الذاتية والموضوعية للفعل الثوري عرض الحائط، ولعل هذا ما لوحظَ  لدى مثقفين حزبيين وأيديولوجيين في سورية، مازالوا بحكم نظرياتهم المسبقة، وهي في الغالب نظريات أجنبية لا تناسب ظروف الداخل، يناقشون ما إذا كان ما يجري داخل سورية ثورةً أم لا!

avata
avata
عماد حسين أحمد (سورية)
عماد حسين أحمد (سورية)