عقدة ذنب تاريخيّة

24 يوليو 2014
ونشعر بذنب رهيب إذا ما تلهَّينا عمّا يدور هناك(Getty)
+ الخط -


"ملاكي.. أهلاً بك!". بهذه الكلمات، وإنما بترجمتها الإنكليزيّة، ترحّب لبنى بمولودتها الأولى وقد نشرت صورتها على صفحتها على موقع "فيسبوك". في الصورة، تبتسم الصغيرة، البالغة من العمر بضع ساعات، وعيناها شبه مغمضتَين وقد لُفّت ببطانيّة بيضاء اللون تتخلّلها بعض قلوب زهريّة وصفراء. ويبدأ الأصدقاء بالتعليق على الصورة، مهنّئين.

دقائق قليلة وتظهر صورة أخرى نشرها أحد الأصدقاء الافتراضيّين، هي كناية عن صورتَين مدمجتَين، تعودان أيضاً إلى فتاة صغيرة. لكنها ليست ابنته، وهي لم تولد قبل ساعات. الأولى تظهر الصغيرة (ثلاثة أعوام تقريباً)، وهي تقبّل دمية فقدت إحدى ذراعَيها. أما الثانية، فتظهر الطفلة نفسها وهي تبتسم ـ على الرغم من الجروح التي شوّهت محيّاها ـ وعيناها مغمضتان وقد لُفّت بكفن ناصع البياض. هي سقطت قبل ساعات.

وفي كلام الصورة نقرأ: "وداعاً يا ملاك غزّة!".. باللغة العربيّة. وتتوالى التعليقات المعزّية والمستنكرة.

هل أبارك لزميلتي بدايةً، أم أعلّق على ما نشره ذاك الصديق الافتراضي؟ أعجز عن حسم أمري. كأن إنسانيتنا هنا، تخضع لامتحان مصيري! نشعر ـ بعضنا ـ بذنب رهيب إذا ما سمحنا لأنفسنا بالفرح، بقليل منه، إزاء أمر ما.. وسط المآسي التي تحيط بنا. نشعر بذنب رهيب إذا ما تلهَّينا عمّا يدور هناك، على بعد بضعة كيلومترات منّا.

قد يكون عجزنا عن الإتيان بما من شأنه إحداث فرق في تسلسل الأحداث، هو ما يجعلنا نشعر بالذنب. ونحاول أن نبرّر ـ لأنفسنا قبل غيرنا ـ لماذا "فرحنا" أو لماذا "تلهَّينا" عمّا يدور من حولنا لبرهة من الزمن ومارسنا يومياتنا كالمعتاد.

قد تكون تلك، عقدة ذنب تاريخيّة تلاحقنا لعنتها. فعجزُ قومنا، منذ النكبة، عن نصر "القضيّة" التي رفعوها شعاراً لهم، ولّد شعوراً بالذنب توارثناه في لاوعينا. وهذا العجز، الذي تختلف أسبابه ما بين خسارة في المواجهة وتخاذل وتآمر مع مغتصب الأرض وإتجار بالقضيّة وأهلها ودمائهم، يدفعنا إلى اعتبار كل خطوة اليوم امتحاناً لإنسانيّتنا.. علّنا نكفّر عمّا ارتُكِب وما زال يُرتكَب من قبل ذوي القربى.

لم أبارك بعد لزميلتي بـ"ملاكها"، لا عبر "فيسبوك" ولا حتى في اتصال هاتفي يُفترض أن تتبعه زيارة تهنئة. كذلك لم أعلّق على صورة ذاك الصديق الافتراضي. فمنذ السبت الماضي، كثرت صور "الملائكة" الذين فارقوا حياةً لم تَطُل.. حياةً لم يخبروا منها سوى مآسيها. ويبقى أن رحيلهم، الذي يُبكينا ويجعلنا نشعر بالذنب الذي يعوّق بعض حركتنا، قد يكون رحمة لهم. ونشعر بالذنب أكثر.. لمجرّد الإقدام على التفكير بتلك "الرحمة".

المساهمون