عقاب من لا يقرأ التاريخ

04 مايو 2018
+ الخط -
يُحكى أن حسن وحُسين كانا يعيشان في وادي المحروسة. الاثنان ينتميان إلى عائلتين كبيرتين تقطُنان ذلك الوادي. كلتا العائلتين تشتهر بصنعة الزراعة وتجارة البهائم.

عائلة حسن كانت تزرع أرضا تماثل مساحتها عشرة أضعاف ما تزرع عائلة حسين. وكذلك كانت تملك غُرفاً ضخمة مملوءة بمختلف أنواع الماشية والبهائم مما يعين على الحرث والغرس ويصلح للبيع، ولدى عائلة حسين غُرف تماثلها، مليئة بالأدراج والأرفُف تحوي وتحمل العديد من اللفائف الجلدية والمخطوطات مما يسرد ويحكي قصص الأولين وأخبارهم.

عكفت عائلة حسن عبر تاريخها على جمع المال وزيادة مساحة رقعتها الزراعية وأنشأت أفرادها على قضاء الوقت بين العمل الشاق نهاراً واللهو واللعب ليلاً لاحتمال جُهد النهار التالي. بينما وازنت عائلة حسين بين رعاية الأرض وهداية الفرد، فصاروا يقضون النهار في حرث الأرض وغرس البذور والليل في قراءة القصص والأحاديث عبر العصور.

ذات يوم ألمّ بالوادي عارضٌ أصاب البهائم بمرض غير معلوم، كانت الدابة السمينة تحمرُ عيناها ثم يصيبها هُزال شديد وخلال سبع ليالٍ أو أقل تخرُ صريعة.

حرصت كلُ عائلة بالوادي على أن تتكتم الخبر، اعتقاداً أن هذا مُصابها وحدها، وكذلك خشية بوار بضاعتها من هذه الماشية إذا ما فكرت في التخلص منها قبل تفشي المرض وقضائه على ما تبقى صحيحاً معافى حتى تلك اللحظة. لم يمض شهر كامل حتى فقدت عائلة حسن ما يقارب نصف عدد الرؤوس التي تملكها.


أصاب الهلع عائلة حسن كما أصاب عوائل أخرى بالوادي، فسارعوا إلى نحر ما تبقى حياً من بهائمهم بعد كساد تجارة الماشية وفقد الأمل في بيعها، تفادياً لأعظم قدر من الخسارة. وصارت السكين تحصد رقاب البهائم سواء بسواء مع ما يحصده هذا المرض الغريب حتى أفنيت جميعها، إلا ما ملكت عائلة حسين، فلم يصبها ما أصاب بقية الوادي.

أكلت العوائل ما استطاعت أن تأكله من لحوم هذه الأنعام، ثم ألقت ما فسد منها مع جيف الهلكى على رؤوس الجبال لتتلقفها الجوارح المتربصة والضواري المتحفزة. هبط القوم من قمم الجبال إلى سهول الوادي يجرون أقدامهم متثاقلين خشية ما هم ملاقوه بعد هذه الفاجعة. قد أوشك موسم الحرث والغرس أن يحل، ماذا هم فاعلون؟ كيف يعوضون ما كانت تقوم به دوابهم التي هلكت؟ كانت هذه الدواب، على كثرتها، بالكاد تنجز ما هو مطلوب من العمل في ما تملك عائلة حسن من رقعة تُزرَع.

اجتمع رؤوس عائلة حسن في سقيفة دارهم ليفكروا ويدبروا كيف يتصدّون لمتطلبات أراضيهم الشاسعة. خلصوا مجتمعين إلى أن الحل الأوحد هو خروج الجميع، شيوخاً وأطفالاً، رجالاً ونساء، لرعاية الأرض وسد احتياجاتها. غير أن التركيز سوف يكون على عُشرِ المساحة، آملين أن يتمكنوا من تغطيتها بالكامل.

خرج حسن فيمن خرج من أهله لينال قسطه من الشقاء والعناء في حرث الأرض وتجهيزها. كانت حرارة الجو في الساعات الأولى من صباح اليوم تنبئ بأن الشمس تحمل لهم قبساً من حر جهنم وقت الظهيرة. أبصر حسنُ حُسين يمتطي بغلته، متقدماً قطيعاً من الثيران والجاموس السائر إلى أرض عائلة حُسَيْن التي تجاور القطعة التي قررت عائلة حسن التركيز عليها.

أصابت الدهشة حسن كما أصابت بقية أهله، لقد رأوْا كثيراً من بيوت القرية تصعد وتهبط الجبال معهم للتخلص من جيف دوابها، وكان أغلب الظن أن من لم يروها من العائلات الأخرى إما قد سبقتهم وإما تلتهم، فكان اعتقادهم أن الجميع قد شرب من نفس كأس البلاء. ترك حسن أهله في حيرتهم وأقبل على حسين الذي كان بدوره مندهشاً من هذه الجموع التي تسعى في تلك الساعات المبكرة من الصباح، فكانت العادة خروج نَفَر قليل بصحبة البهائم في مثل هذا الوقت من العام.

"ما الخطب يا حسن، فيم خرج هذا الجمع؟! هل أصاب مكروه أحداً من أهلك؟" قال حسين للحسن قبل أن يجيبه الأخير "لا لا، الجميع بخير، لقد خرجوا لحرث الأرض وتلبية حاجياتها".

اندهش حسين الذي ترجّل عن بغلته قبل أن يسأله مرة أخرى "ولماذا تقومون أنتم بهذه الأعمال، أين البهائم؟ وأين بغلتك؟! أأصابها شيء؟!" أجاب حسن باقتضاب "لقد ماتت كلّها" ثم أعقب، "لقد أصابها مرض غريب وتساقطت واحدة تلو الأخرى حتى هلكت جميعها".

زادت دهشة حسين وكستها لمحة من الحزن قبل أن يقول "يا إلهي! هل كان المرض شديداً عليها إلى هذا الحد، ألم تستطيعوا مداواتها؟!" ردّ حسن "جربنا كل ما لدينا لكن هذا المرض كان غريباً ولم نسمع به من قبل، وفشلت كل محاولاتنا لتفادي تلك الخسارة"، ثم أردف "لكن أخبرني، ألم يُصِب بهائمكم نفس المرض؟ لقد ظننا أن المرض أصاب كل بيوت الوادي حين رأينا كثيراً من منهم يتخلصون من جيف حيواناتهم فوق الجبل مثلما فعلنا نحن أيضاً، لكن يبدو أنكم لم تتجرعوا نفس المصير، أخبرني كيف حدث هذا".

أخذ حسين يحكي للحسن كيف أن المرض أصاب بهائمهم، وأنه قضى على اثنتين أو ثلاث منها، لكن أباه أخبر العائلة أنه قرأ في سيرة جدهم الأكبر أنه حكى عن مرض مشابه وأعراض متطابقة أصابت الوادي في ذلك الوقت، وأن الناس اجتمعوا وتباحثوا وأخذوا يجربون أساليب علاج ومداواة وأرسلوا وفوداً إلى الوديان القريبة يستطلعون أية أخبار عن هذا المرض وعن طرق علاجه والتعامل معه.

وكان المرض قد قضى على قدر ليس بيسير مما تملك بيوت الوادي من الأنعام والبهائم، قبل أن يأتيهم شاب نجيب من عائلة حسين، كان محباً للسفر والترحال، بوصفة من بلدة بعيدة أصابها نفس الوباء منذ سنوات عديدة، وقد تمكنوا من اكتشاف تركيبة فريدة من بعض الأعشاب تُسقىَ للبهائم فتُشفىَ من هذا المرض العضال.

وكان جد حسين قد كتب تفاصيل هذه التركيبة ونسب مقاديرها وهو يحكي هذه الحكاية ضمن ما كان يحكي عما عاصره وما عاصر آباؤه وأجداده، فقد كانت هذه هواية اشتهر بها كثيرون من أفراد عائلتهم والعائلات الأخرى في هذا الوقت. كانوا شغوفين بسماع أخبار من سبقهم وتدوين أخبارهم بالمثل، ولكن بمرور الوقت انزوت هذه الهواية في أغلب البيوت، بعد أن صار الشغل الشاغل هو التنافس على توسيع الرقع الزراعية وزيادة الحصة السوقية من تجارة الأنعام والمحاصيل.

أنهى حسين ما كان يقصه على الحسن ونفر ليس بالقليل من أهله قد التفوا حول الشابين، لعلهم يجدون تفسيراً لبقاء هذا العدد الكبير من بهائم هذه العائلة على قيد الحياة، على الرغم مما أصاب الوادي من وباء قاتل.

"لماذا يا حسين لم تنبئونا بهذا الدواء لعله يساعد في إنقاذ بهائمنا وبهائم البيوت الأخرى من الهلاك"، سأل حسن حسين الذي أجابه: "لم نكن نعلم أن هذا الداء أصاب دواباً غير دوابنا وأراد جدي ألا ننشر الخبر حتى لا يُصاب أحد بالذعر، خاصة هؤلاء الذين يحلّون على وادينا ليشتروا من سوق البهائم، وخاصة أننا لاحظنا رواجاً في السوق وزيادة في عدد الرؤوس المعروضة، فخشينا أن نضرّ تجارة كثير من البيوت الأخرى وتكتمنا على الخبر".

ثم أردف حسين: "لكن لماذا تكتمتم أنتم والآخرون على علة دوابكم؟ وإذا لم تكونوا تعلمون شيئاً عن هذا الداء أو لم تقرأوا عن هذا الدواء، لماذا تمنعتم عن السؤال أو السعي للبحث عن علاج؟!".

أطرق الحسن رأسه وفعل مثله من بقي من أهله يشهدون هذه المحادثة، ثم قال: "لقد خشينا مثل ما خشيتم، ولكن خشيتنا كانت من بوار بضاعتنا لا بضاعة غيرنا، فتكتمنا على الخبر وسقناها إلى السوق، آملين أن نتمكن من بيعها فتتقلص خسائرنا. لكن السوق اكتظ بالدواب ولم يشهد كثيراً من الزبائن، فكسدت التجارة وبارت البضاعة وأسلمنا أمرنا إلى ربنا، وربطنا البهائم في حظائرنا نأكل كل يوم ما يملأ بطوننا من سليمها ونستعيض الله في سقيمها".

"وعند كساد التجارة لماذا لم تعلنوا الخبر وتطرقوا بابنا وأبواب الآخرين طلباً للمساعدة بدلاً من الانزواء والمضي في التكتم على أمرٍ أوله لكم مجهول وآخره كان معلوماً ووقوعه صار محتوماً؟ لماذا آثرتُم التقوقع داخل المنازل والاكتفاء بالمشاهدة؟".

أطلق حسين هذه الأسئلة على حسن والآخرين وكأنه صوت العقل الغائب داخل رؤوسهم وقد تنبّه فجأة! صاروا يحدثون أنفسهم بعد أن عجزوا عن إجابة حسين الذي تركوه ومضوا إلى مآلهم.

"ماذا فعلنا بأنفسنا؟ في بادئ الأمر خشينا أن يعلم الناس أن بهائمنا معلولة وآثرنا أن نبيعها على علتها وهذا غِش. ثم بعد كساد السوق خشينا التعيير إن عرف الناس جريرتنا فآثرنا الصمت وهذا جُبن. وجلسنا بأعتاب حظائرنا ننظر كيف تخرُ الأنعام واحدة تلو الأخرى وهذا ذُل. وعجزنا عن أن نقرأ ما خطَّ بأيديهم من سبقوا وعاشوا ما عشنا وهذا جهل. نعم جهلٌ، إنه الجهلُ، ما عانيناه بالأمس ونعانيه اليوم وسوف نعانيه في الغدِ ما هو إلا عقابُ الجهلِ، عقابُ من لا يقرأ التاريخ!".
7F5DB893-61BD-4139-BA1B-7685BE6F3FF9
محمد مصبح

باحث في تحليل البيانات ونظم المعلومات بمعهد دبلن للتكنولوجيا، وحاصل على درجة الدكتوراة من معهد دبلن للتكنولوجيا في بحوث العمليات ونظم دعم القرار، ودرجة الماجستير في ديناميكيات النظم من جامعة بيرجن بالنرويج، ودرجة البكالوريوس في علوم الحاسب من جامعة القاهرة.