عطش في بلد النيل

15 فبراير 2016
ارتفاع أسعار جميع السلع (وكالة الأناضول)
+ الخط -
تدرك السلطة المصرية أن الخوف وحده لن يمنع تململ قطاعات شعبية من سياساتها الاقتصادية والاجتماعية. إلا أن إشاعة ثقافة الخوف قد تكون مؤثرة لدى بعض الفئات، لكنها ليست كافية لقمع الكل. لذا تستخدم إلى جانب السيطرة الأمنية، أدوات أخرى من السيطرة المعرفية. حيث تقدم تبريرات اقتصادية يتم ترويجها في وسائل الإعلام، تطاول قرارات رفع الأسعار، مرتكزة في دعايتها على أن الاقتصاد المصري مأزوم والدعم الموجه للخدمات يزيد الخلل في ميزان المدفوعات، وصولاً إلى اعتبار الدعم أخطر على الدولة من الفساد. هكذا ترى النخب الحاكمة أن فقراء مصر سبب أزمتها، فهم يلتهمون الموازنة ويهدمون أي فرصة للتقدم الاقتصادي.
في كل مرة تود الدولة المصرية زيادة سعر خدمة أو سلعة، تلجأ إلى عرض أحد جوانب الأزمة، فتستعرض مثلاً معدلات الصرف على الخدمات، وفق منطق "تعاير" الدولة فيه مواطنيها بأنها تدعمهم. وتتناسى أجهزة الدولة التي تذل المصريين بالدعم في كل مناسبة، بأن موارد الدولة من أراض وأصول إنتاجية ومصادر دخل مملوكة لهذا الشعب. وأن من يحكمون الشعب يتصرفون في تلك الموارد ويوزعون عوائدها حسب انحيازاتهم.
يستيقظ المصريون على أخبار زيادة الأسعار بعد تمهيد يمزج بين تأنيب الشعب المسرف الذي لا يعمل ويستهلك، ورجاء السلطة أن يتحمل المصريون أعباء لا يمكن تحملها. الحقيقة أن معدلات الفساد والنهب تتجاوز مقدار ما تقدمه الدولة من دعم أو إنفاق على الخدمات. إذ أن فاتورة الفساد في 4 أعوام تجاوزت 600 مليار جنيه، حسب الجهاز المركزي للمحاسبات، وهو جهاز حكومي.

ارتفاع الأسعار

وفي السياق، أعلن النظام المصري، في أكثر من مناسبة، ضرورة رفع أسعار مياه الشرب، ورغم أن أسعارها ارتفعت فعلياً منذ شهر إلا إن الدولة تريد تحرير الأسعار بشكل كامل لتباع المياه للمواطنين بأسعار التكلفة. أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أن خدمات مياه الشرب تكلف مصر يومياً 40 مليون جنيه، وأن الدولة لا تستطيع تحمل هذه التكلفة المرتفعة. وقال إن الدولة تدعم 75% من تكلفة المتر المكعب البالغ 150 قرشاً. وإذا قمنا بتحليل مقدار الزيادة الأخيرة، سنجد أن ما أعلن غير دقيق، حيث تم رفع سعر المتر المكعب للشريحة الأولى بنسبة 30% وهي الشريحة الأقل استهلاكاً والأكثر فقراً، بينما يدفع مستهلكو الشريحة الثانية 70 قرشاً للمتر المكعب أي تدعمهم الدولة بما يقارب نصف التكلفة. أما مستهلكو الشريحة الثالثة (من 30 إلى 40 متراً مكعباً) فيدفعون 105 قروش أي يُدعمون بثلث التكلفة. فيما تدفع الشريحة التي يزيد استهلاكها عن 40 متراً مكعباً مقدار التكلفة بشكل كامل وهو 155 قرشاً لكل متر مكعب.
كما حددت التسعيرة الجديدة أسعاراً مرتفعة للاستهلاك التجاري، وارتفعت التسعيرة إلى 285 قرشاً للمتر الصناعي و290 قرشاً للمتر السياحي. أي أن الدولة ستحقق أرباحاً من الشرائح التجارية تستطيع من خلالها تغطية الدعم الموجه لمياه الشرب للشرائح الثلاثة الأولى التي تدعمها. إضافة إلى ذلك فرض القرار الجديد زيادة تسعيرة الصرف الصحي وتم إضافتها لفاتورة مياه الشرب، رغم أن هناك أكثر من 50 % من السكان المحرومين من هذه الخدمة. مما يعني أن هناك أموالاً تجمع على شكل جباية.
أسباب غلاء تسعيرة مياه الشرب لا تقف عند حدود التكلفة كما تدعي الدولة، فهناك أسباب أخرى منها رغبة الأخيرة في تحرير أسعار الخدمات بشكل كامل. وقد أدت سياسة الاقتراض من هيئات دولية لتنفيذ مشروعات المياه والمرافق إلى الإذعان لشروط تلك المؤسسات والتي من أبرزها تحرير الأسعار. فقد أصبحت مياه الشرب مجالاً للاستثمار من قبل شركات ومؤسسات مصرية ودولية تريد زيادة أرباحها على حساب المستهلكين.
لم تجد الدولة حلاً لهذه المشكلة سوى برفع الأسعار، رغم أنه من الممكن إصلاح الشركات وتحصيل الفواتير المتأخرة من هيئات حكومية، ومحاربة الفساد. وكذلك بذل جهود بحثية لتقليل تكلفة إنتاج المياه كما فعلت دول أخرى. كل ذلك سيوفر سيولة نقدية تدعم شبكات المياه وتحل الأزمة. لكن الدولة تتاجر بالأزمة لتخضع المستهلكين عبر تهديدهم بالعطش... في بلد نهر النيل.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، جامعة القاهرة)

اقرأ أيضاً:الباطش والمبطوش به في دولة الفساد المصرية
المساهمون