عصر أنوار ذاتي
المكتوب، لأني أومن بالمكتوب، تكفّل بالمطلوب، لأمضي سنتين تلميذاً في قسمه. كان أستاذنا متفلسفاً شيوعياً، يحفظ عن ظهر قلب أقوال الفلاسفة، يفهم الأسباب التي جعلتهم يكتبون ما كتبوا، اللحظات التي اقتربوا فيها من الله، واللحظات التي أنكروا فيها وجوده، الذين نقلوا والذين أبدعوا، المتفلسفين بحق، وأشباه الفلاسفة. كان الفيلسوف منهم كأنما يتلبس به، حين يفصّل فكره وقوله، لا يفارقه حتى يوفّيه قدره، ليتعاقب على روعه الآخرون.
وضعني المكتوب في قسم هذا الولي الصالح الذي امتلأ قلبه بمبادئ الحرية والإنصاف والتوزيع العادل للثروة وحقوق العمال والمحرومين والضعفاء، فترجمها إلى نضال ومظاهرات وكتابات انتهت به في زنزانة ضيقة بأحد معتقلات سنوات الجمر والرصاص في المغرب، عاين قلوب أعز أخلائه تنطفئ في ظُلمتها.
كان يسهب في شرح التيارات والمقولات الفلسفية، ويرفع صوته الجهوري، وهو يفكك مقولة العقل أو الحقيقة أو الشخصية أو السعادة أو الحق، يضرب الأمثال تلو الأمثال. يتوقف برهة، يتأمل أثر المعاني في النفوس، يُفصّل الأفكار، يثريها بما له من زاد معرفي وأمثلة حية من الواقع، يقابل بينها، يفككها ويعرّيها، تأتي وهلة يفقد فيها الخيط الناظم بين سلاسل الأفكار، يقف وسط القسم، وعيناه على نقطة في الجدار، يتذكّر ترتيب المعاني ورسوم الكلمات، يطلب الأسئلة، يجيب، يطلب المزيد، يجيب. يواصل الدرس، وهكذا، بلا كلل ولا ملل، حتى إذا تيقّن أن الفكرة استوطنت أنفسنا وملأتها، قال "نَكتُب".."فنكتب"..
كنت أدوّن الدرس بسرعة كبيرة، كما أن فيلسوف الثانوية لم يكن يُملِل. صارت الفلسفة مادة محببة إلى قلبي، وصرت محباً للحكمة. بدأ الأقربون يلحظون هذه الارتباط الوليد، ويتساءلون عن سره ومنتهاه. على عهد هذا المتفلسف الشيوعي التهمت كتباً بالجملة.
ومن تلك الكتب التي أذكر أني قرأتها ساعتها "في حياتنا العقلية" للدكتور زكي نجيب محمود، و"سارتر بين الفلسفة والأدب"، وهو كتاب يتضمن مسرحيات سارتر وآراءه الفلسفية، و"كيف تكتب إنشاء فلسفياً"، وهو كتيب جميل بديع يضم خيرة ما كتبه جيل السبعينيات والثمانينيات في امتحانات الفلسفة لنيل شهادة الباكالوريا (أيام كان لهذا الشهادة شأن)، وقد أحسست وقتها أني جد محظوظ لقراءته، وهكذا كنت أقضي أوقات فراغي في جمع الكتب والمقالات الفلسفية وتدوين ملاحظاتي البسيطة حولها.
صرت أتساءل، أفتكر، أتأمل، أنتقد ما أراه وأسمعه، وأقلبه على أوجه عدة، وأرى أن لكل فكرة نقيضها، وأرى أن الحقيقة ليست مطلقة، بل نسبية، وأن العقل يعني التمييز والاختيار والمسؤولية، وأن لا وصاية لأحد على عقلي. صرت، بشكلٍ ما، مصدر إزعاج وقلق، لقرابة لا تجهد نفسها في فهم العالم والكون، وكل ما تريده أن تعود الدراسة بالنفع على هذا الغصن الرطيب، لا أن يتحول إلى شاب حاد الطبع عصيب.
حتى إني، في وقت من الأوقات، أمسيت متخصصاً في جرح وتعديل خطب الجمعة وبرامج التلفزة والأفلام والمسرحيات والكتب والجرائد والأشعار. أضحيت قارئاً متطلباً وتلميذاً متطلباً ومشاهداً صعب الإرضاء، وابناً صعب الإقناع، صار شيء ما طيب نابغ يزهر في القلب. على العموم، كان تغييراً رائعاً، كان زمن الثانوي قريباً من عصر أنوار ذاتي، عشته من كل قلبي.