عشوائيات عمّان تتسلّق جبالها السبعة

10 فبراير 2017
(من "جبل الجوفة" في عمّان، الشهر الماضي،تصوير: نادر داود)
+ الخط -

لم تعد جبال عمّان آمنة بما يكفي لقاطنيها. ولم تعد بعد الجور والإهمال على مدار عقود، تزهو بألفة نسيج المعمار الذي مزّقته العشوائيات وهي تكتسح سفوحها وقممها من جميع الجهات. وليس حادث انهيار عددٍ من المباني العشوائية مؤخراً في جبل الجوفة، شرقي العاصمة الأردنية، سوى إشارة إلى كارثة مؤجلة بانتظار مصير مشابه لمبان أخرى في "عمّان الشرقية".

عشوائيات جبال عمّان التي تم إنشاؤها أواخر سبعينيات القرن الماضي، أشبه ما تكون بقنابل موقوتة تنذر بكوارث إنسانية محتومة إن ظلّت قيد التجاهل والنسيان، خاصةً أنها تربض على مناطق جبلية متدرّجة، وهو ما يفاقم من خطورتها مقارنة مع مثيلاتها من العشوائيات المحيطة بعمّان، أو المنتشرة في العواصم العربية الكبرى، مثل "إسكان العشش" في القاهرة، و"البناء القصديري" في الجزائر، و"الحواسم" في بغداد، وجميعها تقوم على اجتهادات شخصية في التخطيط والتصميم والبناء، من دون مراعاة النسيج العمراني، أو التقيّد بالقوانين المنظمة لنمو وامتداد تلك المدن. كما تشترك في افتقارها إلى المرافق والخدمات الأساسية، وتدني مستوى المعيشة، وانتشار الفقر والأمّية، وشيوع سلوكيات اجتماعية خطيرة.

تفاقم عشوائيات عمّان يُرجَع إلى الزيادة المضطردة في عدد السكان بفعل الهجرات المتوالية والحروب في دول الجوار. إضافة إلى تصاعد الهجرة الداخلية، وزيادة معدّلات النمو السكاني المصاحب لنمو اقتصادي محدود ومتعثّر، فيما تتحمّل مؤسسات الدولة الجانب الأكبر من مسؤولية تفاقم تلك العشوائيات، لجهة عدم فعالية القوانين الناظمة للتوسع العمراني، وفساد الأجهزة المحلية وترهلها.

الطابع العفوي الذي صبغ معمار مدينة الجبال السبعة، وفقاً لطبوغرافية المكان واقتصاديات العمارة، والذي ظلّ مُتصالحاً مع منظومة القيم الثقافية للمجتمع العمّاني طوال العقود الستة الأولى من القرن الماضي؛ سوف ينعطف مع الطفرة النفطية، والتغيّرات الإقليمية في العقود اللاحقة، باتجاه طابعٍ عمراني اعتباطي صارت معه عمّان مشطورة إلى جهتين متباينتين: جهة غربية ترفل بالبذخ والتكّلف واستعراض الإمكانات المادية، التي ما تزال تتضخّم وتتوسّع على وقْعِها منذ أكثر من عقدين. وجِهة شرقية صارت مع تقادم السنين جبالاً من الإسمنت، وخزانات بشرية تفيض بقاطنيها إلى العشوائيات الجبلية التي هي أقرب ما تكون إلى كوارث إنسانية محقّقة.

ولا ينتهي الأمر عند خصائص العمران والمستوى الاجتماعي والمعيشي للسكان بين الجهتين، بل يتعدّاه إلى الفوارق في التخطيط المدني والهندسي، والتهميش الثقافي وندرة النشاطات الاجتماعية والتلوّث البيئي.

وعلى الرغم من البون المعماري الشاسع الذي يفصِل اليوم بين جهتي عمّان الشرقية والغربية، تظلّ مشهديات العمارة في عمّان وثيقة الصلة بالثقافة التي تتشكّل معها ملامح المكان. فإذا كان التنوّع في الأساليب المعمارية الممهورة بصيغ المبالغة في الفخامة التي توشّحت بها عمّان الغربية، تدلّ على انعكاس ثقافة المال، وسطوة حضوره في الاستحواذ على الفضاء المادي للإنسان والمكان؛ فإن صيغ التركيبة الفسيفسائية لعمارة عمّان الشرقية، والكيفيات والطرق المتنوّعة في التسلّق المعماري للجبال، بما فيها العشوائيات نفسها، ليست سوى سردٍ واقعي لحكاية الإنسان مع المكان، وتكيّفه مع شروط الواقع بمتغيّراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

لا تنفصل عشوائيات عمّان اليوم عن جذور النمو العشوائي، الذي درجت عليه المدينة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي. فنمو المدينة التي عرفت أول مخطط هيكلي العام 1956، كان عبارة عن تشنّجات مفاجئة نتجت عن عوامل سياسية شهدتها المنطقة طوال العقود الماضية، مما أدّى إلى انفجارات سكانية انعكست على بنيتها الاجتماعية، وأنماطها المعمارية التي بدأ معها على نحو عفوي، رحلة الصعود من أسفل الوادي، إلى السفوح وقمم الجبال على نحوٍ تراكمي. فالزحف العمراني المتواصل من نواة المدينة وسط السوق التجاري والمسجد الحسيني ووادي سيل العين، باتجاه الجبال المحيطة بها، والشروع ببناء الأدراج التي شكّلت رابطاً أفقياً وعامودياً بين جبال عمّان وأحيائها وأطرافها؛ هو بمثابة سجلٍّ مفتوحٍ على مُخرجات "التحدي والاستجابة" التي لم تخل من العشوائية المصاحبة لهندسة الجبال كما هي عليه الآن.

تفادي مخاطر العشوائيات على النسيج المجتمعي والأمني لا ينحصر باتخاذ القرارات والإجراءات الرادعة بحق المخالفين، بحسب المسؤولين الأردنيين، بل يتطلّب عدم فصل التعامل مع العشوائيات عن جوانب التنمية الاجتماعية والاقتصادية، واجتراح السياسات الكفيلة بتنفيذ برامج تحسين وتطوير المناطق العشوائية، أو توفير إسكانات في مواقع تحدّدها الدولة حسب خطة إسكانية معيّنة كما هو متّبع في العديد من البلدان، التي تعاني من انتشار العشوائيات، مثل الهند وباكستان وإيران ومصر.

أما الاكتفاء باعتبار الأبنية العشوائية، التي تعرّضت للانهيار في جبل الجوفة، "أبنية قديمة وليست حديثة" وأن "نظام البناء في الموقع كان عشوائياً" ووجوب "عمل مسح زلزالي للمنطقة تحسّباً لحدوث أي زلزال" وفق ما ذهب إليه المسؤولون بعد الانهيار؛ فيعني انتظار موجة جديدة من الانهيارات التي قد تستحيل معها المباني العشوائية إلى مدافن للأحياء.

المساهمون