في البلدان التي تستقبل عادة مهاجرين، تتشكّل غالباً مجتمعات موازية يحاول من خلالها المنتقلون من بيئة إلى أخرى التأقلم، مع حدّ أدنى من التغييرات. لكنّ الأمر قد يتعدّى ذلك وتخرج الأمور عن السيطرة
في أحد مقاهي مدينة دورتموند بولاية شمال الراين - وستفاليا، غربيّ ألمانيا، حيث تدخّن مجموعة من الشبّان النرجيلة، عُلّقت صورة للممثّل الأميركي مارلون براندو في خلال أدائه دور"العرّاب" فيتو كورليوني في رائعة فرانسيس فورد كوبولا. في إطار أنيق وُضِعت تلك الصورة التي قد تجد مثيلتها في مقاه وأندية بمدينة هامبورغ (شمال) وبالعاصمة برلين (شمال شرق)، فثمّة من يشير إليها كرمز لـ"ترابط العائلة".
في تلك الأماكن، تُقدَّم المشروبات الكحولية مع إصرار البعض على إشهار هويّته الدينية، من خلال قلادات على شكل هلال أو نجمة أو سيف "ذو الفقار" أو خريطة الوطن الأم، وكذلك من خلال لحى ووشوم مختلفة. ربّما لن يتمكّن المشاهد من فهم ما يدور هناك، غير أنّ ذلك هو "العالم الحقيقي"، برأي بعض من الذين يعيشونه. مرتادو تلك الأماكن يُصنّفون في إطار "العشائر العربيّة"، تلك العائلات العربية الكبيرة التي تخالف القانون، بحسب الأجهزة الألمانية الأمنية والقضائية. لكنّ تلك التسمية تبدو غير دقيقة، إذ إنّ ثمّة عائلات من جنسيات أخرى - منها شرق أوسطيّة - تأتي مشمولة بها. وتتكرر تسمية "العشائر العربية" في البلاد ووسائل إعلامها، عند الإشارة إلى تحديات ألمانيا مع مجتمعاتها الموازية في ما يتعلق بانتشار المافيا، خصوصاً في منطقة نيوكولن الواقعة جنوب شرقيّ برلين.
في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2017، رفع حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني صوته مطالباً بتقديم كلّ الدعم الممكن للمؤسستَين الأمنية والقضائية لمواجهة "الجريمة المنظمة التي تمارسها بصورة واسعة عائلات عربية وشرق أوسطية"، مشدداً على عدم الرغبة في "تحوّل برلين إلى صقلية". وقد أتى ذلك بناءً على تقرير نشرته صحيفة "برلينر كوريير" الألمانية في الرابع من ذلك الشهر، تناول توسّع انتشار ما يسمى بـ"العشائر" "من ولاية شليسفيغ هولشتاين في أقصى الشمال، على الحدود مع الدنمارك، مروراً بولاية بريمن (شمال)، وولاية ساكسونيا السفلى (شمال غرب)، وصولاً إلى برلين (شمال شرق). يُذكر أنّه بين عام 2017 وأواخر عام 2018، قدّرت الشرطة والقضاء عدد أعضاء العصابات في برلين وحدها بنحو 10 آلاف. وبحسب وسائل إعلام ألمانية، لا سيّما "بريلنر كوريير"، فإنّ نطاق عمل هذه العصابات يشمل أعمالاً إجرامية مختلفة للتربّح والإثراء، من تهريب إلى تنافس على سوق المخدّرات وسطو مسلح وسرقة متاحف ومتاجر مجوهرات ثمينة وجباية أموال حماية (ابتزاز) من محلات ومطاعم إلى القوادة والدعارة وغيرها من الممارسات التي تأتي مخالفة للقوانين.
أجواء غير ألمانية
في منطقة نيوكولن ببرلين، وتحديداً في شارع سونن آلي، الذي يُطلق عليه محلياً اسم "شارع العرب"، التقت "العربي الجديد" بعدد من الأشخاص. يقول سامر (30 عاماً)، مشيراً إلى محلات ومطاعم ومحلات خضروات وصالونات ومقاه، إنّه "كان من الممكن أن يكون مشهد حياة عرب ألمانيا مختلفاً. لكن للأسف تحوّل إلى سلبية واشتباه بسبب الجريمة المنظّمة، على الرغم من أنّ الناس بمعظمهم لا علاقة لهم مطلقاً بتلك الأجواء".
في مقاهٍ منتشرة على أرصفة سونن آلي، يجلس بعض الشبان والرجال وسط البرد، متناولين الشاي والقهوة ومدخّنين النرجيلة. قبالة أحدها، تثير الانتباه واجهة صالون حلاقة مهشّمة، فيخبر سامر أنّ "تلاسناً بسيطاً جرى هناك، ليأتي أحد المتورّطين فيه بمجموعة تحمل المطاوي ويحطّمون الصالون". وهؤلاء الجالسون طيلة الوقت في المقاهي، ألا يعملون؟ سؤال يفتح نقاشاً آخر. ويشرح بعض الموجودين لـ"العربي الجديد"، عن نسبة كبيرة تعيش على ما يسمّى الراتب، أي المساعدة الاجتماعية أو "السوسيال" بلسان المقيمين هنا، إلى جانب انتشار العمل الأسود. وفي هذا المكان، تختلط اللهجات اللبنانية والفلسطينية والسورية والمصرية وغيرها مثل الكردية والتركية، في تهكّم يطاول الألمان و"حبّهم لكلابهم أكثر من أولادهم".
من جهته، يقول عبد الرحمن (29 عاماً)، إنّه "بعد أربعة أعوام، أشعر كأنّني ما زلت في الشام ولم يتغيّر أيّ شيء... اللكمات والصياح والسكاكين"، مضيفاً أنّ "ثمّة من يحتفظ بالموس الكباس (مطواة معروف في سورية)". شبان آخرون مثل منتصر السعيد (28 عاماً)، اختاروا "العيش بعيداً عن الجوّ السائد هنا". ويشير منتصر إلى أنّه يقصد المكان "لشراء بعض الحاجيات فقط. فأنا آثرت وأصدقاء لي العيش وتعلّم اللغة والدراسة عموماً. لا نرغب في البقاء مكانك راوح. نحن نرغب في حياة هادئة... أظنّ أنّ كثيرين يرغبون في ذلك".
مخبرون وافدون جدد
في الشارع نفسه، يتحدّث رائد (56 عاماً)، عن "تجنيد مخبرين تحت شعار محاربة الجريمة، وعن مجرمين وأشخاص صدرت في حقهم أحكام قضائية تشغّلهم الشرطة والاستخبارات الألمانية، الأمر الذي يُشعرهم بأنّهم محميّون". أمّا أحمد حيفاوي (43 عاماً)، من مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سورية، فيرى في الأمر "استعادة لجوّ مخبري بلادنا، مع كثير من التبلّي (إخباريات غير صحيحة)". يضيف: "بصراحة، أفضل ألا أكون في هذه البيئة التي أراها سيّئة لمستقبل أطفالنا".
من جهتها، لا تتردد أمّ عاطف (65 عاماً)، وهي لاجئة فلسطينية أقامت في لبنان على مدى عقود، في القول "أكره تلك العشائرية التي يمارسها البعض تبجّحاً، إذ إنّها تشويه كبير لصورتنا كعرب هنا، لكنّني على الرغم من ذلك أظنّ أنّ بضعة آلاف لا يعبّرون عن مئات الآلاف".
في العموم، يعبّر وافدون جدد إلى برلين لـ"العربي الجديد"، عن دهشتهم، ويقول فيصل (58 عاماً)، الآتي من السويداء (جنوبي سورية): "لم أتوقّع أن تكون برلين هكذا". والتعبير عن الدهشة يأتي مع خشية من "إمكانية تنفيذ العصابات أمراً مدمّراً"، بحسب ما يقول مالك أحد المتاجر. كثيرة هي حالات الابتزاز المالي التي يتعرّض لها هو وغيره من أصحاب المتاجر، الأمر الذي تؤكده تقارير ألمانية إعلامية.
في سياق متصل، يؤكد لاجئون جدد تقارير رسمية ألمانية تفيد بشيوع حالات استغلال اللاجئين. ويصف أبو مناف (47 عاماً)، وهو طالب لجوء من فلسطينيي سورية، الأمر بأنّه "غير معقول. فأنت تعمل لقاء قروش قليلة، وإذا كنت مضطراً إلى إيجاد سكن، فإنّ ظروفك تُستغَلّ وتُرفع بدلات الإيجار بنسبة كبيرة". وأبو مناف الذي لجأ مع أطفاله الأربعة قبل سنوات قليلة، يتخوّف دائماً من احتمال ترحيله إلى بلغاريا، التي تُعَدّ بلد اللجوء الأوّل بالنسبة إليه.
غضب رسمي
استغلال المهاجرين وطالبي اللجوء على يد العصابات صار موضوعاً تتداوله صحف برلين، على أثر حملة جديدة أدّت إلى مصادرة بعض أملاك أعضاء في "العشائر العربية" في خلال صيف وخريف 2018. وقد حاولت سلطات برلين الغاضبة من تنامي قوّة العصابات المنظمة، في صيف 2018، السيطرة على الوضع وجعل مواجهة "العشائر العربية" واحدة من أبرز أولوياتها الأمنية. في هذا السياق، قال عمدة نيوكولن مارتن هِكل إنّ مدينته "تجاهلت حرفياً هؤلاء الناس لثلاثين عاماً، والآن نواجه تضخماً في هذه المشكلة. هم مسلحون بشكل جيّد وجمعوا ثروات ضخمة، وعلينا أن نقف الآن في وجوههم قبل أن يحوّلوا أموالهم إلى أملاك قانونية". وعبّر هِكل في هذا الإطار، عن صدمته من عمليّة قتل أحد أفراد العصابات اسمه نضال ربيع (36 عاماً)، أمام زوجته وأطفاله بالقرب من مطار تمبلهوف القديم في برلين، في التاسع من سبتمبر/ أيلول الماضي. جرى ذلك على أيدي أربعة قتلة أطلقوا النار على رأسه، الأمر الذي دفع هِكل إلى التأكيد على أنّ "هذا القتل أمام الناس والأطفال يعني أنّنا وصلنا إلى أدنى مستويات الوضع الهش".
تجدر الإشارة إلى أنّ مخاوف السياسيين والأمنيين بعد عملية قتل ربيع تزايدت، لا سيّما بعد خروج نحو ألفَي شخص من عائلات رمو وشحرور وأبو شاكر ومري والزين، وهي أكبر العائلات اللبنانية والفلسطينية في برلين. وقد وصفت الصحافة الأمر بأنّه "تعبير عن تضامن على طريقة وداع عرّابي مافيا أميركا".
والخشية التي دفعت مسؤولي ألمانيا إلى تشديد القبضة الأمنية والتدخّل الاجتماعي، هي من تأثّر أكثر من نصف مليون مهاجر من سورية بتلك الممارسات. ولا تخفي السلطات، خصوصاً في برلين، أنّ سعيها إلى لجم العصابات يأتي عقب توسيع الأخيرة سيطرتها في المجتمعات المهاجرة. من هنا، يبدو أنّ عام 2019 الذي انطلق قبل أيام، سوف يشهد مزيداً من الإجراءات الأمنية والقضائية.
طفح الكيل!
فجر 27 مارس/ آذار من عام 2018، تعرّض متحف "بودي" في برلين لعمليّة سطو، فأتى ذلك كنقطة تحوّل أو بالأحرى كطفح كيل لدى الشرطة والقضاء. على طريقة أفلام هوليوود، استطاع السارقون الذين تثق الشرطة بأنّهم من "العشائر العربية"، الحفر وسرقة عملة ذهبية تُعرَف بـ"ورقة القيقب الكبيرة" تحمل صورة وجه الملكة إليزابيث الثانية، وقد أصدرت في كندا في عام 2007 وتزن 100 كيلوغرام من الذهب الصافي، أمّا ثمنها فيقدّر بنحو أربعة ملايين يورو، وقد استعارها المتحف من مالك مجهول.
هذه الصورة التي تترجمها قلّة فقط من الخارجين على القانون من نحو 200 ألف من "العشائر العربية"، وفقاً لأرقام السلطات الرسمية والشرطة الألمانية، يفصّلها اللبناني - الألماني رالف غضبان في كتابه "العشائر العربية - الخطر المستخف به". وغضبان كان قد أتى إلى ألمانيا في سبعينيات القرن الماضي كلاجئ من لبنان هرباً من الحرب الأهلية، وفيها درس العلوم السياسية وعمل باحثاً حول "الحالة الاجتماعية بين عرب ألمانيا". وقد نقلت عنه الصحافة المحليّة إثر صدور كتابه في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قوله إنّ "هذه العشائر عاشت لسنوات وهي تمارس الجريمة المنظّمة من دون عوائق، لكنّ عمليّة المتحف (سرقة العملة الذهبية) أدّت إلى تسليط الضوء عليها، فقامت الشرطة بالضغط عليها ونشر التوتر في صفوفها. لم يتمّ الانتصار على تلك العشائر بعد، فهي أخطر بكثير من السابق، خصوصاً بسبب حشرها في الزاوية". بالنسبة إلى غضبان، فإنّ تركيبة العصابات والعمليات التي تقوم بها تجعل مستوى خطرها كبيراً. أضاف أنّه على الرغم ممّا خرج به خبراء ألمان بأنّ المقيمين من أصل عربي لا علاقة لهم بالجريمة المنظّمة، فإنّ "التركيبة الاجتماعية العشائرية والأسرية تجعل الترابط بينهم قوياً". وأشار إلى أنّ "العائلات اللبنانية - الكردية في فرانكفورت وبريمن تهيمن على الاتجار بالمخدرات وعمليات الابتزاز (الجباية المالية بحجة الحماية) والدعارة وغسل الأموال والتهريب".
حملة أمنية وقضائية
مثّلت سرقة المتحف إحراجاً كبيراً لشرطة برلين وللسياسيين المحليين الذين عدّوا ما جرى "محفّزاً لاستمرار نشاط الشرطة والسلطات بلا هوادة في وجه المافيا العربية"، بحسب ما نشرت صحيفة "دي تسايت" الألمانية. وكانت الشرطة قد اكتشفت في أثناء التحقيق في السرقة أنّ شخصاً من عائلة/ عشيرة رمو (عائلة كبيرة من لبنان) كان يعمل حارساً في المتحف. وفي خلال حملة أمنية نُفّذت في يوليو/ تموز 2018، اعتقلت قوات خاصة ثلاثة شباب من "العشيرة"، هم أحمد وعبدو ووسام، تراوحت أعمارهم بين 18 عاماً و20. وصارت "عشيرة رمو" مستهدفة مع تضييق من قبل الشرطة والادعاء ومجلس بلدية برلين. بالنسبة إلى السلطات، فإنّ هذه العائلة كانت دائماً تحت أنظارها في نيوكولن، نتيجة أعمالها السابقة. وبحسب ما تؤكد صحف عدّة في نوفمبر/ تشرين الثاني، فإنّ الشرطة الألمانية واثقة من أنّ "العائلة الكبيرة أو العشيرة التي يقودها شخص يدعى عيسى رمو بطريقة أبويّة، وهو في بداية الخمسينيات من عمره، مسؤولة عن عمليات إجرامية عدّة، بما فيها سرقة المتحف". على الرغم من ذلك، ينفي الرجل أيّ صلة له ولعائلته بالجريمة، مؤكداً أنّ "الأملاك (بيوت وشقق يملكها) هي من كدّي وعملي لسنوات". تجدر الإشارة إلى أنّ السلطات الألمانية صادرت 77 منزلاً ومحلاً تعود إلى "عشيرة رمو"، إذ إنّ تلك الأملاك بالنسبة إليها "نتيجة عمليات غسل أموال، في حين أنّ بعضاً من الشقق يؤجَّر للمهاجرين بأسعار خيالية، بينما يحصل مالكوها على مساعدات سكن من السوسيال"، وفقاً لما ذكرت مجلة "شتيرن".
في السياق، أدخلت سلطات برلين (الحكومة المحلية) في خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي تعديلاً قانونياً مع خمس نقاط جديدة لمحاربة الجريمة المنظّمة. وفي التعديلات الجديدة التي شبّهتها الصحافة في برلين بـ"تكتيك الشرطة الأميركية في ثلاثينيات القرن الماضي ضد آل كابوني وأفراد عصابات شيكاغو"، وضعت السلطات نظام تعاون بين الشرطة والخدمات الاجتماعية وإدارة الضريبة لمحاولة السيطرة على تدفّق الأموال وغسلها، من أنشطة تبدو في الظاهر تجارية وأعمال يملكها أعضاء في العشائر. وتهدف السلطات من خلال هذه الإجراءات إلى تسهيل خروج الشباب من أفراد العصابات للكشف عن الزعماء والمسيطرين على ما يسمى "أندية رياضية شبابية" في البيئات المهاجرة، يتم فيها التجنيد.