عزمي بشارة.. في نقد تقديس المنهج

25 مارس 2019
(عزمي بشارة، من المحاضرة)
+ الخط -

في محاضرته، ضمن ثاني أيّام الدورة السابعة من "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية"، التي انطلقت أوّل أمس في الدوحة، بتنظيمٍ من "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يُقدّم المفكّر العربي، عزمي بشارة، سبع أطروحات حول النظرية والمنهج، يؤكّد فيها، منذ البداية، استحالة الحديث عن المفاهيم والظواهر الاجتماعية دون مواجهةٍ للواقع الاجتماعي.

وبتعبيره: "لا يوجد منهج صحيح ومنهج غير صحيح خارج الجهد البحثي في موضوع محدّد"، وكأنه يريد تذكيرنا بكلمات غوته من أن شجرة الحياة خضراء، أمّا النظرية فرمادية! إذ لا يُمكن، برأيه، أن نُقرّر أي منهج نختاره قبل مباشرة البحث؛ فالمنهج وليد العملية البحثية ذاتها، وليس سابقاً عليها، وهذه العملية هي ما يفرض منهجاً، وهو بذلك ينتقد لا ريب ما سماه "عبادة المنهج" التي تسود مختلف الدراسات العربية التي تبدأ عملها "البحثي" بـ"بيان المنهج وتحديده".

من جهة ثانية، يحدّد بشارة، في محاضرته التي تحمل عنوان "في أولوية الفهم على المنهج"، ما الذي يعنيه بالنظرية العلمية، معتبراً أنَّ نظريةً لا تؤدّي إلى تأسيس منهج لا يمكن وسمها بالعلمية. النظرية العلمية، برأيه، "نسقٌ من مقولات عامّة متماسكة منطقياً عن ظواهر اجتماعية تكشف عن بنية متكرّرة أو نمط علاقة بين متغيّرات؛ وينجم عنها مقاربة أو منهج في شرحه مميّزات الظاهرة وشروط وجودها وتوقُّع مسار تطوُّرها". ولهذا لا ينبغي أن نتساهل في إطلاق تسمية المنهج، حسب رأيه، على الأدوات الكمية والنوعية التي تستخدمها تخصُّصات مختلفة. وفي السياق نفسه، يفرّق بين ما يصطلح عليه "عبور التخصّصات" وبين "تداخل التخصُّصات"؛ فوجود تقنيات عابرة لبعض التخصّصات لا تغني عن تداخل التخصّصات الذي يعبّر عن الحاجة إلى مناهج مختلفة من أجل بحث الظاهرة الاجتماعية.

ربما يمكننا الاستدلال، هنا، بالفلسفة الاجتماعية كما مارسَتها مدرسة فرانكفورت، والتي عرفت، على الأقل في جيلها الأول، تداخلاً خلّاقاً لكلّ من الفلسفة (هيغل، وماركس، ونيتشه) والبحث الاجتماعي والتحليل النفسي كعلم اجتماعي. وربما هذا ما أكسبها تلك القوة التحليلية التي نعدمها في فلسفات أخرى، بل وما دفعها إلى إعادة بناء المنهج الاجتماعي والتحليلي وفقاً للمشاكل والتناقضات التي يعجّ بها الواقع؛ أي من داخل الواقع وليس من خارجه.

ولا يجانب بشارة الصواب حين ينتقد النزعة العلموية التي سيطرت لفترة على العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل ونجدها أيضاً في الدراسات الأدبية التي جنح بعضها إلى تطبيق المنهج الإحصائي على النصوص الأدبية، ما أفسد، ليس فقط النص الأدبي ونقده، ولكن أيضاً الذائقة الأدبية، وحوّل تلك النصوص إلى جثث، بتعبير بشارة.

لعلّ أهمّ نقطة في مداخلة عزمي بشارة هي تلك التي يبيّن فيها البون الشاسع الذي يقوم بين التحليل العلموي الذي يقدّم مؤشرّات كمية تؤكّد استقرار الوضع الاقتصادي لبلدان معيّنة من جهة، ومن جهة أخرى، نلحظ اندلاع حركات احتجاجية وثورات جياع وانتفاضات في المناطق المهمّشة داخل هذه البلدان، التي تؤكّد الأرقام ارتفاع نسب النمو الاقتصادي فيها.

يُرجع المحاضِر ذلك إلى الخلط بين النمو الكمّي في هذه الدراسات وبين التنمية النوعية، مشيراً، في السياق نفسه، إلى ما يمكن أن نسمّيه "عبادة الأرقام" في مثل هذا التحليل العلموي، والذي يجعلنا نفكّر دوماً في المقولة التي تُنسب إلى وزير البروبغندا النازي غوبلز "إن الإحصائيات الصحيحة، هي التي عمدتُ إلى تزويرها بنفسي".

قضية أساسية يجب أن لا نغفلها في هذه المداخلة، وهي دعوة بشارة إلى التواضع المعرفي، وهو ما يعني به الاستعداد للتعلُّم من التخصّصات الأخرى والتعاون معها في دراسة الظواهر الاجتماعية، بل لعلّنا لا نبالغ بالقول إنَّ مداخلته بأكملها هي مديحٌ للتواضع، وذلك على أكثر من مستوى، وديدنه في ذلك، العودة المستمرّة إلى الواقع، والتي من شأنها وحدها أن تجنّبنا خطر السقوط في التفكير الأسطوري. ولهذا تُمثّل أعمال بشارة - بالنسبة إليّ - نظرية نقدية في السياسة، فداخلها هو الواقع وليس التراث، وفيها يظلّ المجتمع بتناقضاته وبأثولوجياته الحكمَ الأخير على عمل العقل.

وربما، في السياق ذاته، يتوجّب أن نفهم تشكّكه في إمكانية تطبيق مناهج العلوم الحقّة على الظاهرة الإنسانية، مثل تلك التي تتعلّق بنظرية الاحتمال والسببية الإحصائية في ميكانيكا الكم، لأنها برأيه تغفل بُعداً أساسياً يميّز الظاهرة الإنسانية؛ وهو حرية الإرادة الإنسانية. وفي هذا السياق يدعو العلوم الاجتماعية والاقتصادية إلى أخذ مقاصد البشر وإرادتهم بعين الاعتبار، فنحن مع الإنسان، نقف أمام كائن عاقل وخيارات عقلانية.

قضية أساسية سيتعرض لها بشارة في الأطروحة السابعة من أطروحاته حول أولوية الفهم على المنهج، تلك التي تتعلّق بالتأويل، وخصوصاً في التعامل مع النصوص الدينية. ينفي هنا أن يكون التأويل الذي يمكنه أن يقدّم ويكشف عن احتمالات مختلفة لتفسير النص الديني، أو أن تكون نتائجه التي يخلص إليها، مرادفة لحقائق الإيمان، مؤكّداً أن الموقف المتسامح الذي نبحث تحقيقه أو شرعنته عن طريق التأويل، هو موقف أخلاقي أكثر منه نتيجة للتأويل، بل قد يشجّعنا هذا الموقف المتسامح برأيه على ممارسة هذا التأويل. وفي السياق نفسه أيضاً، سينتقد النزوع نحو فرض التأويل باعتباره المنهجية الصحيحة التي تجبّ ما قبلها أو غيرها من المناهج، مؤكّداً أن زعماً كهذا يهدّد مصداقية هذا المنهج.

يُذكر أنَّ "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية"، الذي يُختَتم اليوم، يُناقش في دورته السابعة موضوع "إشكالية مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية"، ويشهد مشاركة 72 باحثاً ينتمون إلى مؤسّسات علمية وبحثية مختلفة.

المساهمون