قال المفكر والباحث العربي، عزمي بشارة، إن اتفاق السلام الذي وقعته إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، كان نتاجاً مباشراً لحرب الخليج الثانية، فالانتفاضة الأولى وصلت لطريق مسدود مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وإسرائيل أدركت أنها لحظة مناسبة للتخلص من الانتفاضة عسكرياً، فمنظمة التحرير مهمشة في تونس، وبعد حرب الخليج خسرت الكويت كمصدر تمويل مهم.
وأضاف بشارة في حواره مع برنامج "وفي رواية أخرى" على التلفزيون العربي، أن اتفاق أوسلو عمليا رسخ قانوناً لشيء كان موجوداً، وهو أن مجال القضية الفلسطينية هو الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، الأمر الذي وضع الوطنيين من عرب الداخل أمام مأزق.
وذكر أن توقيع أوسلو جعل بعض العرب في الداخل يقولون إن قضية فلسطين في طريقها للحل، وإنه من الأفضل لهم أن يلتفتوا إلى مستقبلهم داخل إسرائيل، وعادت مظاهر الولاء لإسرائيل بين بعض عرب الداخل بشكل معلن، وعن قناعة وليس عن خوف، كما كانت فى الستينيات.
وكان هذا متصلا بتأسيسه للتجمع الوطني الديمقراطي، الذي قال إن تأسيسه كان بعد تولد حاجة للتأكيد على الهوية الوطنية، ووضح أن المشكلة الأساسية كانت في تراجع الحركة الوطنية بعدما فشلت القائمة التقدمية في انتخابات 1992، ودخلت الحركات الأخرى في مأزق بما في ذلك الأحزاب الشيوعية.
وأضاف بشارة: "كانت توجد مظاهر مادية لها معانٍ ومغازٍ كثيرة، وبدأنا بتنظيم الحركة الوطنية من جديد والهدف الحفاظ على الوطنية".
وعن الصعوبات التي واجهت التأسيس، قال بشارة: إن الاحتلال اشترط الامتثال للواجبات للحصول على حقوق متساوية، ورفضنا ذلك بشدة"، وبين أنه في مقابل ذلك طرح فكرة "الأصلانية"، وتقوم على أن العرب هم السكان الأصليون أصحاب البلاد، وأن المواطنة ليست تسولاً على موائد اللئام، وعلى الصهيوني أن يفهم أن المواطنة ليست منّة منه، لكنّ قبولها تنازلٌ مني، ويجب أن تكون متساوية، ليست أقل من مائة في المائة.
وأضاف بشارة: طرحت أفكاراً بشأن المواطنة على الاحتلال تنبع من عمق فلسفي مرتبط بمفاهيم ديمقراطية وليبرالية، مبيناً أن الاحتلال رأى لأول مرة خصوماً يخاطبونه بشأن مفاهيم الديمقراطية.
وفي هذا السياق شرح "بشارة" أن مفهوم المواطنة ليس "تصهيناً" وليس "تأسرلا"، بل هو حالة توتر دائم ومستمر مع الصهيونية، والدولة الديمقراطية لجميع مواطنيها والمطالبة بالحقوق الوطنية فقط من دون النضال من أجل مصالح الناس اليومية، يحولك إلى نادٍ اجتماعي حصري وأقلوي منعزل عن حياة الناس، والمطالبة بالمساواة فقط من دون المطالبة بالحقوق الوطنية سينتهي حتما بـ"التأسرل".
وأردف أن المعادلة المقنعة لحل هذا التوتر هي الحفاظ على الهوية العربية والفلسطينية، وفي نفس الوقت الحفاظ على مصالح الناس ومكاسبهم اليومية من وظيفة وشغل وميزانيات للمجالس المحلية ورخص بناء، وهذا كان يحتاج إلى تنظير وبرنامج سياسي.
ومن المنطلقات ذاتها، كشف الباحث والمناضل العربي عن أسباب دخوله الانتخابات الإسرائيلية، ودخوله الكنيست. فقال: كنا نُريد منع تهميش الحركة الوطنية ونُريد أن نحافظ على جذوة الصراع ضد الصهيونية، بعدما هدأت الأوضاع بعد كامب ديفيد وأوسلو، وكذلك لتبني قضايا الناس، وظروف الناس اليومية لمواصلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في الوقت الذي بدأ فيه العرب الاتجاه للسلام".
وأضاف: "قررنا الاتجاه للبرلمان لتقديم نموذج مختلف دون أن نعتنق الصهيونية، ودخلنا ليس للاحتفاء بعضوية الكنيست ولكن لتمثيل خط نضالي، فأنا داخل لهدف تمثيل قضايا العرب في الداخل، ولتشكيل نقيض للخطاب الصهيوني من خلال الخطاب الديمقراطي الذي لم يعد حكراً عليهم".
وميز بشارة بين فترات مختلفة من الدخول إلى الكنيست، فقد كان هناك "عرب قبلنا أعضاء في البرلمان، ولم تكن صياغة الخطاب الذي نقوله موجودة، وترأست أول لجنة فحص في مصير أموال الغائبين بعد 1948، وصغنا قضايا العرب صياغة جديدة، على أساس شعار (الدولة يجب أن تكون دولة جميع المواطنين وليست دولة اليهود في العالم)".
وأكد أنه يؤمن بالمشروع العربي، وفي الوقت ذاته فإنه غير مؤمن بالقومية العربية، مضيفاً: "مشكلتي مع القومية كأيديولوجيا، فلا يوجد شيء اسمه برنامج قومي لقضايا الاقتصاد والمرأة".
وأضاف أنه وضع صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مكتبه بالكنيست الإسرائيلي، وذلك بالرغم من أنه ليس ناصرياً أو متعصباً لأشخاص، وأحدثت الصورة ضجة كبيرة".
وتأكيداً للفكرة ذاتها، قال بشارة إنه لم يتنازل عن الفضاء الثقافي العربي، وإن جزءاً من برنامج حزب التجمع هو حق عرب الداخل في التواصل مع العرب ليس كإسرائيليين.
وأضاف أنه لم يرد أن تكون علاقته مع الوطن العربي علاقة مربوطة بإسرائيل، موضحاً: "نحن جزء من العرب، وسورية ليست دولة عدواً، وفيها فلسطينيون، وأريد التواصل معهم".
وعقّب على العلاقة مع الجانب السوري، التي وضّح أنه أصبح فيها احترام وثقة، وأنه طلب أن يتاح لأبناء الشعب أن يزوروا إخوانهم في المخيمات، وأن "الناس بدأوا يزورون إخوتهم في المخيمات. وهناك أناس رأوا إخوتهم قبل أن يموتوا، وكنت أشعر بأنني لو قمت بشيء واحد لكفاني فخراً، أناس سيموتون ولن يشاهدوا بعضهم بعضاً، أخذت معي أشخاصاً تراوحت أعمارهم بين و70 و85 سنة، يكفي هذا المشهد. وزاروا أهاليهم في مخيم اليرموك".
وعبّر بشارة عن أمانيه في حياته بممارسة الكتابة، متابعاً بأنه ليس سياسياً بارعاً، وقال في الوقت ذاته إن "العرب يقسون على بعضهم بعضاً".
وواصل حديثه عن زيارة سورية، وقال إنه عندما كان يرغب في زيارة سورية كان يدخلها بدون جواز السفر الإسرائيلي، وكانت بمثابة رسالة وطنية عربية أنه يتواصل مع كافة العرب لتمسكه بعروبته.
وأضاف أن إسرائيل صُعقت من زيارته إلى سورية للمرة الأولى بدون جواز السفر الإسرائيلي، وكان عليه أن يطلب إذناً، ولكنه قال لهم إن "سورية دولة عدو لكم، ولكنها بلد عربي، أزورها كعربي، وليس كنائب. وبدأت التهديدات والمحاكمة".
وفي سياق علاقته مع النظام السوري، قال بشارة إن القيادة السورية إبان الرئيس حافظ الأسد، كان لديها استراتيجيات واضحة، وهي الرفض لكامب ديفيد والصمود وعدم تقديم تنازلات لإسرائيل، إلا بعد استرداد هضبة الجولان، وكانت تستضيف المقاومة الفلسطينية، وكان الفلسطينيون يُعاملون كالسوريين تماماً.
وقال بشارة في حوار مع برنامج "وفي رواية أخرى" على التلفزيون العربي، إنه لا يقف مع النظام السوري ويبرر أفعاله ويمتدحه، ولكنه كان يؤيده في دعم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وحقوق الفلسطينين في سورية، مضيفاً: "لم أكن أمتدح النظام السوري".
وعن تعامله مع القيادة السورية، قال إنه كان يقول للقيادة السورية كل ما يعتقده، سواء نقداً أو إيجاباً، مضيفاً: "وعندما ألتقي رئيس دولة أو رئيس حكومة، فالاحترام موجود لدرجة أنك تقول كل ما تعتقده، ولكن لا تذهب في الإعلام وتتحدث عن ذلك".
وعن لقاءاته مع القيادة السورية في تلك الفترة، قال بشارة: "كنا نتحدث عن كل شيء تقريباً، واللقاء قائم على الاحترام الفكري، وكانوا يحبون الاستماع لتحليلاتي عن الخصم إسرائيل، وكانت تحليلات صحيحة لأمور كثيرة، وثبت أن تقييمي لإيهود باراك كان صحيحاً وسليماً، وقال إنه سئل مثلا "هل هناك أمل للسلام مع إسرائيل، وقلت لهم لا سلام مع إسرائيل، وثبت أن ما أقوله صحيح، وأنه (باراك) لن يتراجع عن هضبة الجولان".
وفي رده على سؤال "هل كنت تقول للقيادة السورية أنتم لستم ديمقراطيون؟"، قال: "النظام السوري كان يعرف أنه لم يكن ديمقراطياً، وخلال اللقاءات، يلزم الإنسان حدود كلامه، وكنا نتحدث حول حقوق الإنسان والإعلام، وعندما تكون ضيفاً في بلد، تحتاج الأمور إلى تواضع، وأذهب لهدف معين لا أن أثور بديلاً للشعب السوري".
وتابع أنه يقف مع الشعب السوري في ثورته، مؤكداً: "لن نقف موقف المتفرج، بل سنقف مع الشعب السوري"، مضيفاً: "لو حصلت ثورة في سورية ووقفت مع النظام، فهذا هو الامتحان".
وحول علاقة بعض العرب بإسرائيل، قال المفكر العربي، إنه شعر بالصدمة عندما شاهد في ألمانيا بعض اللبنانيين يحتفلون بدخول القوات الإسرائيلية إلى لبنان عام 1982، كما وصف أيضا مذبحة صبرا وشاتيلا بصدمة أصابت الفلسطينيين.
وأوضح بشارة، أن بعض الأسر الفلسطينية انتقلت لألمانيا عقب مجزرة صبرا وشايتلا، وقام بتقديم المساعدات إليهم، موضحا أنه حينما عاد إلى فلسطين بعد رحلة الدراسة في الخارج كان مهتماً بالعمل على التواصل بين العرب في فلسطين المحتلة عام 1948، وفي الضفة والقطاع، لأن التواصل الفلسطيني الفلسطيني كان هاجسا بالنسبة له.
وتحدث عن سكنه في القدس الشرقية والتحاقه بالعمل في التدريس في جامعة بيرزيت، وعن ملامح الوعي الوطني الفلسطيني داخل الجامعة، وقال إن الأجواء داخل الجامعة كانت صحية، فبيرزيت كمكان كان نخبويا، والجو في بيرزيت كان وطنياً فلسطينياً وتعددياً ديمقراطياً، حيث كان يوجد يسار قوي وحركة فتح والكتلة الإسلامية ولم تكن حماس قد تشكلت بعد.
وأضاف بشارة: "رأيت بعيني وقتها كيف تشكلت حماس خلال الانتفاضة الأولى، والجو عموماً ديمقراطي. حبذا لو يعود".
وقال بشارة، في خضم حديثه عن تجربة التدريس في جامعة بيرزيت، إن النخبة والمثقفين كانوا رافضين للقيادات المحلية التي كانت تراهن عليها إسرائيل لتأسيس الحكم الذاتي الفلسطيني وقتها، وتحدث عن الوضع القائم آنذاك، موضحاً أن إسرائيل شكلت هيئات مختلفة، واعتبرت منظمة التحرير إرهابية، وكان رد الفعل من القيادات الفلسطينية بما فيها المثقفون، هو الإصرار على التمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً لهم، كنوع من النفي النفسي لتهمة التواطؤ مع الاحتلال.
ومع فشل مشروع الحكم الذاتي وقتها، استعاض الاحتلال بفكرة "روابط القرى" التي كان غرضها تحويل الناس إلى عيون للاحتلال.
وأضاف بشارة أنه في الفترة التي انتشرت فيها روابط القرى "اعتقدنا أن الدنيا خربت، لكن الانتفاضة بدأت بعد حادث عمال السيارة، واشتعلت جامعة بيرزيت وأنا كنت مع الطلاب، وهؤلاء طلابي، وكنا نشارك في العمل الوطني في الانتفاضة الأولى".
وأضاف المفكر العربي، أن مؤتمر قمة عمان جاء بعد ذلك وحاول تهميش القضية الفلسطينية بعد حرب 1982، وحاول البعض إخراج منظمة التحرير من لبنان لتهميشها. لكن منظمة التحرير وتحديداً حركة فتح استغلت خروجها من لبنان للتفكير فى تغيير استراتيجيتها والاستثمار في الضفة الغربية وقطاع غزة، وانتقل فعلياً ثقل الحركة الوطنية إلى الضفة والقطاع بعد خروج منظمة التحرير من لبنان، وهذا أثبت أنه كان الأكثر خطورة على إسرائيل.