عرش أدوليس

08 ديسمبر 2014
+ الخط -
جليٌّ أن الهوَس الذي يقود المؤرخين للبحث عن حقيقة الماضي قُدّ من معدن الهوس الذي قاد مؤخرًا سفينةً فضائية أوروبيّة لِقطعِ مسافة 510 ملايين كلم؛ بحثًا عن كويكب ظهرت فيه مصادفةً جزيئياتٌ عضوية من مواد جامدة، تمامًا كما حدث لكوكبنا، حيث أوصلت تلك الجزيئيات بعد بضعة مليارات سنين من التطور البيولوجي، إلى الإنسان أو "والذي حارتِ البريةُ فيهِ: حيوانٌ مستحدثٌ من جماد" بتعبير أبي العلاء. 

قاد الهوس المؤرّخ الأميركي جلين باورسوك، ليضيء في كتابه "عرش أدوليس" تاريخَ الحقبة الزمنية التي سبقتْ ظهور الإسلام، في الجزيرة العربية ولا سيّما جنوبها، ومملكة أكسوم الحبشية. مستندًا إلى آخر دراسات المتخصّصين بقراءة النقوش والمخطوطات وآثار اللغات القديمة؛ السبأية، والحبشية، والسريانية والإغريقية، من مناطق مختلفة في الجزيرة العربية وشرق إفريقيا.

انطلق المؤرّخ تحديدًا من اكتشاف أخير لقطعٍ من عرش كان منتصبًا في مدينة أدوليس الإرتيرية (كانت تطلّ على البحر الأحمر بالقرب من أسمرا اليوم) وكتاب إغريقيٍّ قديم: "طوبوغرافيا مسيحية" يحتفظ بالنصوصٍ التي كانت منقوشةً على العرش.

إذ دوّن التاجر المسيحي كوسماس إنديكوبوستيس، خلال رحلاته العديدة، ولا سيّما رحلته في حدود عام 520إلى مدينة أدوليس، النصوص المنقوشة على عرشٍ من الرخام الأبيض، وعمود ضخم من البازلت منتصب خلفه، بناءً على طلب ملك الحبشة كاليب في العاصمة أكسوم.

كان الملك حينها على وشك المضي في هجوم جديد، عرمرمٍ هذه المرّة، على مملكة حِمْيَر (بعد مجزرة نجران، في 523م) ويهمّه ما كان مكتوبًا على العرش من سردٍ لانتصارات ملكٍ حبشيٍّ سبقه (في بداية القرن الثالث) احتلّ مملكة حِمْيَر، لتظلّ تحت السيطرة الحبشية حتّى 270م. لم يكتفِ التاجر المسيحي بنقل النصوص المنقوشة، بل أضافَ رسومًا للعرش وخارطةً تعيّن موقعه.
 
لم يعد كاليب إلى أكسوم إلا بعد أن ثبّت فيها ملكًا مسيحيًّا جديدًا: معدي كرب يعفر. ومن أجل الاحتفال بانتصاراته، وبتنصيبهِ ملكًا مسيحيًّا لِحِمْيَر، شيّد كاليب صروحًا تتغنّى بأمجاده باللغات الحبشية والسبأية.

إلا أن الحِمْيَري اليهودي الأصولي يوسف عازار، أطاح بالملك المسيحي، ليصلَ إلى السلطة ويدمّر الكنائس المسيحية في عاصمة حِمْيَر، ويأمر بإبادة مسيحيي نجران في 523م! وكان فخورًا بـ "هولوكوست" نجران، حدّ أنه أرسل في عام 524 رسالةً لمؤتمرٍ دوليٍّ انعقد في رملا (بجنوب العراق الحالي) تصفُ مجزرته! صدمت الرسالة كنائس الشرق كلّها، وحثّ إمبراطور بيزنطة (غوسطين) الملكَ كاليب على "ضرب هذا اليهودي المجرم القذر".

فأعدّ هجومًا شاسعًا في 525م على حِميَر، يسانده أسطولٌ ضخمٌ من السفن البيزنطية القادمة من العقبة، هزم فيه يوسف، أسقط المملكة اليهودية، وتوّجَها بملك حبشيٍّ لِحمير: سوميفا أشوع، وبعمودٍ ضخمٍ منتصبٍ في مأرب، يسرد انتصاره. 

تضاعفتْ شهوات القوّتين الأعظم: الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، أكثر من أي وقتٍ مضى، للهيمنة على مناطق ضفّتي البحر الأحمر وموانئه، وطريق الحرير. أرسل قسطنطين، إمبراطور بيزنطة، سفيرين للمملكة المسيحية الحِميرية لإقامة تحالف إستراتيجي معها ومع الحبشة ومع قبائل عربية نافذة في قلب الجزيرة ككندة، من أجل إغلاق موانئ المنطقة في وجه تجار فارس. 

أطاح الحبشي أبرهة بعد ذلك (530م) بالملك سوميفا الذي كان ضعيفًا وخاضعًا للحبشة، ليستقلّ بشكلٍ علني عن النفوذ الحبشي المركزي، ويدخل في صراعٍ جبهويٍّ مع كاليب. 

ساهم أبرهة بتعمير حِميَر حيث أعاد ترميم سدّ مأرب، ونصب عمودًا ضخمًا في مأرب، في 547م، يخلِّد ذكراه. ثمّ دعا إلى مؤتمرٍ دولي، "أهم مؤتمر في المنطقة منذ مؤتمر رملا الذي بعث له يوسف رسالته الكارثية"، حضره المناذرة، والساسانيون، وحاكم فلسطين الذي عيّنه الإمبراطور البيزنطي، وممثلون عن فارس وبيزنطة. هكذا رسم أبرهة لمملكته دورًا إقليميًا طليعيًا يستغلّ موازين القوى الجيوسياسية لصالحها. 

"غاب عن هذا المؤتمر العرب الوثنيون ومتعدِّدو الآلهة، كقبائل يثرب، الذين لم يكن لهم ممثلٌ يجمعهم". من كان يتصوّر آنذاك أن يثرب هذه (التي كانت تحتدم فيها أطماع البيزنطيين والفارسيين الزرادشتيين، وتتنوع فيها المعتقدات الدينية الموالية لهذه القوى) ستكون قريبًا الأرض الخصبة لنشوء ديانة جبارةٍ جديدة؟ 

ثمّ ازدادت أطماع أبرهة في إخضاع قلب الجزيرة العربية لنفوذه: أرسل حملة لها عام 552م باتجاه النفوذ الفارسي في الحيرة. ها هنا يختلف التاريخ العلمي مع التاريخ الديني الذي يضع هذه الحملة في عام 570م؛ عام ميلاد الرسول، ويطلق عليها "عام الفيل" مضيفًا لها قصصًا ميثولوجية شهيرة. 

أُجهضَتِ الحملة، غير أنّها أذكتْ حاجة فارس للعودة والهيمنة على منطقةٍ ربطتها بها تاريخيًا علاقة تعاطف مع يهود حِميَر، وخسرت كثيرًا فيها منذ انتصار كاليب. ستعود فارس فعلًا إلى المنطقة بُعيد قليل من ذلك، استجابةً لدعوة اليهودي الحِميري سيف بن ذي يزن. 

هذه الحروب الدينية المتعاقبة، والممتزجة بالمصالح الجيوسياسية والإستراتيجية للقوى العظمى، كانت الوعاءَ الذي نشأت فيه ديانة الإسلام. ومن خرائبها وتأرجحاتها وتعاقب هزّاتها الزلزالية، برزَتِ الظروف الملائمة لانطلاقةٍ ظافرةٍ للدين الجديد الذي نهض مستقلًا عن مصالح القوى العظمى وصراعاتها، رافعًا إلى السطح قوىً شتّتتها أوثانُها ودياناتُها المختلفة، وهمّشتها الأقطابُ الجيوسياسية السائدة. 

لم تحتج هذه القوى الجديدة إلا لعقودٍ قليلة لِتضمّ المنطقة بأسرها وقواها العظمى المتاخمة، ابتداءً من فارس بعد عقود قليلة من نشوء الإسلام، وانتهاء بعاصمة الإمبراطورية البيزنطية نفسها، القسطنطينية (إسطنبول) في 1453. ولِتخلق بدورها صراعاتٍ دينيةً جديدةً ما زالت تشتعل حتّى اليوم! 

إذا ما نظر المراقب السياسي لتحالفات القوى السياسية في منطقتنا اليوم، حيث بعضها سفنٌ فضائية للغرب أو سفنٌ فضائية تدور حول سفنهِ الفضائية، والأخرى بيادق لإيران أو بيادق لبيادقها؛ وإذا ما نظر لعنف تحالف الطغاة والأصوليين في منطقتنا وحروبهم المتوالية؛ فلا يسعه إلا أن يقول: "ما أشبه الليلة بالبارحة!". 

أمّا الأديب فسيلجأ للسخط الأنيق وهو يتأمل منحنى الزمن العربي وهو يرجع دائرياً إلى الخلف. سيستحضر عبارة هرقليطس العميقة: "لا يستحمُّ المرء في النهر نفسهِ مرّتين!" متسائلاً بمرارة إن لم نكن نميل بضراوة، نحن العرب، للاستحمام في بحرٍ ميّت.


المساهمون