لا تبعد المدرسة الإعدادية العمومية "سانت إيكزوبيري" عن منزل عائلة المرابط في ضاحية باريس إلا مائتي متر، غير أنّ العائلة ذات الأصول المغربية فضّلت عدم تسجيل أولادها فيها. وتقول سميرة المرابط، ربّة الأسرة، إنّها هي وزوجها قرّرا "بعد تفكير مليّ، الاقتصاد بعض الشيء والتخلّي عن الكماليات، لنتمكّن من تسجيل أولادنا في مدرسة حرّة (مدرسة خاصة) بعيدة عن مكان سكننا، مع كلّ ما يستتبع ذلك من صعوبات وتضحيات". فالأبوان صارا مضطرَين إلى مرافقة أولادهما إلى المدرسة البعيدة، إلى جانب اضطرار أحدهما إلى انتظارهم عند انتهاء الدوام. من جهتهم، فإنّ الأولاد سوف يعانون من جرّاء ارتباطهم بصداقات جديدة مع أقران لهم يقطنون بعيداً عن مكان سكنهم.
عائلات كثيرة من أصول عربية تلجأ اليوم أكثر فأكثر إلى المؤسسات التعليمية الخاصة تماماً كما فعلت عائلة المرابط، مع الإشارة إلى أنّ تلك المؤسسات تستقبل 20 في المائة من تلاميذ فرنسا. ويُطرح السؤال حول سبب ترك "مدارس الجمهورية" - هذا ما يُطلَق على المدارس العمومية - في الوقت الذي يفتخر فيه سياسيون فرنسيون كثر بأنّهم تعلّموا فيها؟ وتشير سميرة هنا إلى أنّ "الآباء يرغبون في تأطير أكبر لأبنائهم، وهذا أمر غير متوفّر في المدارس العمومية".
من جهته، يقول سعيد الموساوي، وهو من أصول جزائرية، إنّ ما تركّز عليه المدارس والمعاهد الخاصة والذي يرضي الآباء هو "المجهود الذي يُبذَل من أجل تكوين مدرسي فرديّ لكلّ تلميذ. فالتلميذ لا يحصل فقط على معرفة أكاديمية، وإنّما يتعلم القدرة على التأقلم مع أوضاع مختلفة. ويُصار كذلك إلى إطلاع الآباء أكثر فأكثر على المشروع التعليمي للمؤسسات". يضيف أنّه يلتقي كثيراً بمدير المؤسسة حيث يتعلّم أولاده، "وهو ينصت إلى هواجسي وينصحني بكيفيّة التصرّف مع أبنائي بمرح وعطف".
إلى ذلك، وفي حين تعاني مؤسسات تربوية عمومية كثيرة من غياب المدرّسين، الأمر الذي يثير احتجاجات لدى آباء التلاميذ، فإنّ المؤسسات الخاصة لا تعرف ذلك. يُذكر أنّ كلّ وزراء التربية الفرنسيين انتقدوا الأمر بسبب تأثيره السلبي على مردودية التلاميذ الذين يشهدون تبدّل مدرّسين كثرا خلال فصل دراسي واحد، علماً أنّ بعض هؤلاء غير متخصص في المادة المطلوبة.
يكشف الأمين العام المساعد للتعليم الكاثوليكي، يان ديريزون، فلسفة المؤسسات الخاصة لعلاج غياب المدرّسين، قائلاً إنّه "في حين تحرص مؤسسة تعليمية عمومية على تعويض مدرّس لغة فرنسية متغيّب بمدرّس آخَر لتلك اللغة، فإنّ هدف المدارس الخاصة هو تأمين مداومة المدرّسين. فلا يتردد مديرو تلك المدارس في تعويض اللغة الفرنسية بدروس في الرياضيات، إذا كان المدرّس مستعداً لمنح ساعات إضافية".
إلى ذلك، فإنّ تعاقب الحكومات - يسارية ويمينية - واختلاف الإصلاحات الذي يطاول أيام الدراسة الأسبوعية ويُلزم العائلات بالتأقلم وأحياناً بصعوبة، يدفعان عدداً كبيراً من العائلات إلى اللجوء إلى التعليم الخاص الذي يحافظ وبصورة كبيرة على الإيقاع نفسه. يُذكر أنّ الإصلاحات بمعظمها تترافق مع احتجاجات وإضرابات للجسم التعليمي، الأمر الذي من شأنه أن يؤثّر سلباً على التلاميذ ويضع الآباء في مآزق.
كذلك يرى آباء كثيرون ينحازون إلى المدارس الخاصة، أنّ مرحلة التعليم الإعدادي - أربعة أعوام - حاسمة في التعليم، لذا يعمدون إلى تسجيل أبنائهم فيها خلال هذه الفترة الدقيقة، خلال تحوّلهم إلى المراهقة. بالنسبة إليهم، فإنّ التعليم الخاص يرافق أبناءهم بطريقة أفضل في بناء شخصياتهم.
هدى رمضاني من هؤلاء الأهل الذين أصرّوا على تسجيل أولادهم في مؤسسة تربوية خاصة. وعلى الرغم من أنّ تكاليف تعليم أولادها الثلاثة مرتفعة، فإنّها توضح أنّ "الغرض من هذه التضحية هو منح أولادي أفضل تعليم ممكن". وهو ما يؤكده جواد الشاذلي من أصول تونسية، قائلاً إنّ "الآباء يريدون أن ينجح أولادهم في دراستهم. وهذا هو الدافع الأكبر للجوء إلى مدارس ومؤسسات تعليمية مكلفة مادياً". يضيف أنّ "الأجيال تغيّرت. والأب حالياً، وأتحدث عن نفسي، يقول: أبي كان عاملاً وأنا أريد أن يصبح ابني كادراً".
وثمّة أهل يبرّرون لجوءهم إلى "المدارس الحرّة" بالحرية الدينية في تلك المؤسسات، إذ يمكن للتلميذ التحدّث عن معتقداته الدينية من دون قلق ولا خوف. إلى ذلك، فإنّ الحجاب ليس محظوراً في تلك المؤسسات، مثلما هي الحال في المؤسسات العمومية. لكنّ العائلات تعرف جيداً أنّه من غير المسموح في تلك "المدارس الحرّة" التغيّب عن دروس التربية البدنية أو علوم الحياة والأرض، بالإضافة إلى رفض تحويل المدرسة إلى قاعة صلاة.
في سياق متصل، كان جواد الأيوبي يأمل بتسجيل ابنه في "مؤسسة تعليمية إسلامية متعاقدة مع الدولة، لكنّ هذا النوع من المدارس لا يتعدّى أصابع اليدَين في فرنسا كلها. والمؤسسة المعترف بها في باريس بعيدة جداً عن مكان سكني"، لذا فضّل إبقاء ابنه في مدرسة الجمهورية. ويقرّ: "أعرف أنّ الظروف صعبة، لكنّني أراجع مع ابني دروسه وواجباته في البيت. وهذا أمر لا يفعله عدد كبير من الأسر العربية والأفريقية، إن بسبب عدم تحصيل الآباء علمهم أو لظروف العمل الصعبة".
تجدر الإشارة إلى أنّ المسؤولين عن التربية والتعليم في فرنسا لا يكفّون عن التحذير من فوارق بين التلاميذ تهدد "العيش المشترك" وتقف في وجه "الاختلاط الاجتماعي".