تنتشر في المنطقة العربية البطالة وتتسع معدلاتها بشكل مستمر، وحسب مؤشرات وتقارير التنمية، فإن المنطقة سجلت أعلى معدلات بطالة في العالم. بل إنه تم رصد ما يقرب من 70 مليون شخص انضموا إلى صفوف العاطلين من العمل بعد الأزمة المالية في 2008، والتي ارتبطت بنمط اقتصاد يقوم على المضاربات المصرفية والعقارية على حساب الإنتاج الصناعي والزراعي. وقد انعكست الأزمة على الاقتصاديات العربية، وخاصة أنها تعاني تراجعاً في الأداء، وتدور في نمط التكوين الاقتصادي نفسه.
لذا لم تنفصل أسباب الثورات عن الواقع الاقتصادي الذي شكلت ظاهرة البطالة أحد منتجاته بجدارة. كان البوعزيزي، الذي أحرق نفسه، تجسيداً لمأساة عشرات الملايين من الشباب الذين يعانون البطالة. أحرق الشاب التونسي جسده ليصرخ معلناً رسالته للمجتمع بقسوة، احتجاجاً على مصادرة الأمن عربة الخضار، وهي مصدر رزقه، بعدما تم الاعتداء عليه.
البوعزيزي ليس استثناءً، فهناك مَن هم في ظروف العمل نفسها. هناك المعطلون سواء كانوا لا يجدون فرصة عمل أو يعانون من بطالة موسمية، وهناك من فقدوا أعمالهم في ظل المنافسة الشرسة في سوق العمل. هناك ملايين "البوعزيزيين" الذين يشكلون أكثر من نصف سكان الوطن العربي.
أمثال البوعزيزي كثر، منهم من انتحر شنقاً أو حرقاً أو قفزاً من فوق "كوبري" (جسر)، أو لوحة إعلانات في الطريق العام، ليصرخ في وجه العالم ويقول: إنكم تقتلوننا كل يوم، فلا عجب إن اخترنا أن نموت بأيدينا لا بأيدي هذه النُّظُم التي تحرمنا القوت والحد الأدنى من الحياة.
وفي ظل المشهد المرتبك لقوى الثورة والقوى الشبابية، لم تقدم السلطات الحاكمة تنازلات إلا في ما ندر، ولم تضع برامج تنمية اقتصادية تؤدي إلى تخفيف معدلات البطالة، لأن وضع الخطط التنموية التي تستوعب العاطلين عن العمل تعني في الوقت ذاته ضرورة وجود نُظُم لها برامج اقتصادية وخطط مغايرة لما هو قائم الآن.
وتستوجب بالطبع إبدال النمط الاقتصادي الذي يقوم على الاستيراد والتشييد والريع، باقتصاد حقيقي يقوم على دعم التصنيع ومشاريع الإنتاج الزراعي. وهذا لا يمكن أن تقوم به تلك النظم التي تنهب شعوبها والتي تعد امتداداً لنظم ما قبل الثورة، من حيث إنها ذات طبيعة تابعة وإنها أفسدت الزراعة وخربت الصناعة وتركت الأسواق للنهب واليد العاملة لاستغلال الشركات الدولية التي تشارك فيها الفئات الحاكمة وتستفيد منها.
لم تعد الصورة خفيّة على أحد، فقد استعادت قوى الثورة المضادة عافيتها وصعدت مرة أخرى قوى النهب الاقتصادي إلى صدارة المشهد السياسي بقوة، بعد خفوت صوت الميادين. ساهم الإخفاق الذي تعرضت له الثورات في تبخّر وعود الإصلاح ، بل إن بعض النظم اتخذ إجراءات قاسية ترافقت مع الانتكاسة التي تعرضت لها الحركة الجماهيرية.
لم تكن آمال ملايين العاطلين من العمل تتقلّص في توفير عربة بيع خضار كحل للبطالة، فتلك الأطروحات الاقتصادية، إن جاز أن نطلق عليها "اقتصادية"، هي حلول ساذجة لا تصنع بالطبع تنمية ولا تقيم دولة ولا تسيّر مجتمعاً. ورغم بؤس تلك الأطروحات، إلا أنها تجد مروجيها من كتّاب وأبواق السلطة، حتى وإن حسبوا أنفسهم على قوى المعارضة أو كانوا أساتذة اقتصاد.
تلك الفئات تدافع عن مثل هذه الأطروحات أو تصمت عنها من منطلق أنهم شركاء أو مستفيدون من هذه السلطة بشكل أو بآخر، ولا يعنيها في حقيقة الأمر أحوال ملايين من الشباب المفقرين ولا أحوال الوطن، مهما أطلقت من شعارات.
أخيراً، ليس أدلّ على بؤس حال المتعطلين إلا المخاطرة التي قادت عمالاً مصريين إلى أن يقتلوا على أيدي مجرمي تنظيم داعش. ولعلّ بشاعة الفيديو الذي نشر تدلّ على قدر بؤس العيش الذي دفع هؤلاء وغيرهم من العمال الموجودين إلى الآن في الاستمرار بعملهم في ليبيا. هذه الوقائع تكشف أن البطالة تهين الكرامة وتقتل، سواء وقع القتل أثناء محاولات الهجرة الغير شرعية في زوارق إلى أوروبا أو في دولة تتنازعها الصراعات، أو بإعلان رسائل الاحتجاج واليأس عبر انتحار معلن ومقصود يقول للمجتمع إن البطالة تقتل.
(باحث انثروبولوجيا من جامعة القاهرة)
إقرأ أيضاً: مجزرة ضريبية سورية باسم "تشجيع الاستثمار"
البوعزيزي ليس استثناءً، فهناك مَن هم في ظروف العمل نفسها. هناك المعطلون سواء كانوا لا يجدون فرصة عمل أو يعانون من بطالة موسمية، وهناك من فقدوا أعمالهم في ظل المنافسة الشرسة في سوق العمل. هناك ملايين "البوعزيزيين" الذين يشكلون أكثر من نصف سكان الوطن العربي.
أمثال البوعزيزي كثر، منهم من انتحر شنقاً أو حرقاً أو قفزاً من فوق "كوبري" (جسر)، أو لوحة إعلانات في الطريق العام، ليصرخ في وجه العالم ويقول: إنكم تقتلوننا كل يوم، فلا عجب إن اخترنا أن نموت بأيدينا لا بأيدي هذه النُّظُم التي تحرمنا القوت والحد الأدنى من الحياة.
وفي ظل المشهد المرتبك لقوى الثورة والقوى الشبابية، لم تقدم السلطات الحاكمة تنازلات إلا في ما ندر، ولم تضع برامج تنمية اقتصادية تؤدي إلى تخفيف معدلات البطالة، لأن وضع الخطط التنموية التي تستوعب العاطلين عن العمل تعني في الوقت ذاته ضرورة وجود نُظُم لها برامج اقتصادية وخطط مغايرة لما هو قائم الآن.
وتستوجب بالطبع إبدال النمط الاقتصادي الذي يقوم على الاستيراد والتشييد والريع، باقتصاد حقيقي يقوم على دعم التصنيع ومشاريع الإنتاج الزراعي. وهذا لا يمكن أن تقوم به تلك النظم التي تنهب شعوبها والتي تعد امتداداً لنظم ما قبل الثورة، من حيث إنها ذات طبيعة تابعة وإنها أفسدت الزراعة وخربت الصناعة وتركت الأسواق للنهب واليد العاملة لاستغلال الشركات الدولية التي تشارك فيها الفئات الحاكمة وتستفيد منها.
لم تعد الصورة خفيّة على أحد، فقد استعادت قوى الثورة المضادة عافيتها وصعدت مرة أخرى قوى النهب الاقتصادي إلى صدارة المشهد السياسي بقوة، بعد خفوت صوت الميادين. ساهم الإخفاق الذي تعرضت له الثورات في تبخّر وعود الإصلاح ، بل إن بعض النظم اتخذ إجراءات قاسية ترافقت مع الانتكاسة التي تعرضت لها الحركة الجماهيرية.
لم تكن آمال ملايين العاطلين من العمل تتقلّص في توفير عربة بيع خضار كحل للبطالة، فتلك الأطروحات الاقتصادية، إن جاز أن نطلق عليها "اقتصادية"، هي حلول ساذجة لا تصنع بالطبع تنمية ولا تقيم دولة ولا تسيّر مجتمعاً. ورغم بؤس تلك الأطروحات، إلا أنها تجد مروجيها من كتّاب وأبواق السلطة، حتى وإن حسبوا أنفسهم على قوى المعارضة أو كانوا أساتذة اقتصاد.
تلك الفئات تدافع عن مثل هذه الأطروحات أو تصمت عنها من منطلق أنهم شركاء أو مستفيدون من هذه السلطة بشكل أو بآخر، ولا يعنيها في حقيقة الأمر أحوال ملايين من الشباب المفقرين ولا أحوال الوطن، مهما أطلقت من شعارات.
أخيراً، ليس أدلّ على بؤس حال المتعطلين إلا المخاطرة التي قادت عمالاً مصريين إلى أن يقتلوا على أيدي مجرمي تنظيم داعش. ولعلّ بشاعة الفيديو الذي نشر تدلّ على قدر بؤس العيش الذي دفع هؤلاء وغيرهم من العمال الموجودين إلى الآن في الاستمرار بعملهم في ليبيا. هذه الوقائع تكشف أن البطالة تهين الكرامة وتقتل، سواء وقع القتل أثناء محاولات الهجرة الغير شرعية في زوارق إلى أوروبا أو في دولة تتنازعها الصراعات، أو بإعلان رسائل الاحتجاج واليأس عبر انتحار معلن ومقصود يقول للمجتمع إن البطالة تقتل.
(باحث انثروبولوجيا من جامعة القاهرة)
إقرأ أيضاً: مجزرة ضريبية سورية باسم "تشجيع الاستثمار"