عراقيون في"بلاد الفايكنغ"

03 اغسطس 2016

من مؤتمرات المعارضة العراقية قبل الاحتلال الأميركي (1نوفمبر/1999/Getty)

+ الخط -
تقول نكتة عراقية ساخرة إن ناشطا يقيم في عاصمة غربية، يخطط لعقد مؤتمر يجمع سياسيين وهواة سياسةٍ معارضين لحكومة بغداد، ولم يعد ينقصه سوى أشياء بسيطة: دولة تموّل، ومدينة تفتح أبوابها لاحتضان المؤتمر، وناشطون يوافقون على الحضور، توفر لهم بطاقة سفر وإقامة في فندق ذي خمس نجوم أسبوعاً، ومصروف جيب مناسباً، وإذا أكملنا النكتة، فإن الناشط شرع في الطواف على سفارات دول معينةٍ، بحثاً عمّن يوافق على الدفع.
ربما تروي النكتة واقع حال مكشوفاً أمام الملأ، فقد تناسلت المؤتمرات الخاصة بالعراق في السنوات العشر العجاف الأخيرة، إلى درجة أن مؤتمراً ينعقد بين مؤتمر ومؤتمر. ومثل هذا يمكن أن يقال عن مشاريع وخطط لتغيير الحال، وكذا عن خطب وكلماتٍ تلقى، ولا تصل أصداؤها إلى أبعد من بوابات الفنادق التي تلتئم فيها تلك المؤتمرات، يحدث هذا و"المسألة العراقية" لا تتحرّك قيد شعرة، وكلما انفض سامر مؤتمر ما على عجلٍ في انتظار عقد مؤتمر آخر، قيل إن الحل أصبح أقرب من حبل الوريد.
بعض من شارك في تلك المؤتمرات أو تحمّس لها حمل نية طيبة وخالصة. لكن، ليس بالنيات الطيبة وحدها يمكن أن يحيا الإنسان العراقي، فقد رافق تلك الفعاليات لغط وكلام كثير، من بعضه إن دولاً عربية، وأخرى غربية، ومنظمات دولية، مولت عقد تلك المؤتمرات، وأنفقت عليها. وبالطبع، ما منح لم يكن كله خالصاً لوجه الله، فلكل دولةٍ أو منظمةٍ أهدافها واستراتيجياتها الخاصة، ولها الحق في أن تضع شروطها على كل نشاطٍ أو فعاليةٍ تصرف عليها، وليس مطلوباً منها أن تمنح أو تمنع، من دون أن يكون لها رأي أو هدف.
ومن بعضه أيضاً أن من تصدّروا تلك المؤتمرات وأداروها انتفخت جيوبهم بما كانوا يريدون الحصول عليه، وقنع بعضهم من الغنيمة بالإياب، فيما استمرأ آخرون اللعبة وأجادوها، وأدمنوا التجوال هنا وهناك، بحثا عن تمويلٍ لمؤتمر جديد. ووجد غيرهم في ذلك فرصةً سانحةً للإقامة في فندق ذي خمس نجوم، والسياحة والتجوال في بلاد الله، من دون أن يتكلفوا دولاراً، وذلك كله باسم العراق، وباسم شعبه المسكين الذي يعيش معاناة مضاعفة، نادراً ما عاشها شعب من قبل، وليت ما صرف على مؤتمراتٍ كهذه أنفق على مبادرات ومشاريع تخدم أهلنا في الداخل، وخصوصاً شرائح النازحين والمهجرين، وأسر الشهداء الذين فقدوا معيليهم، وقد وصلت أعدادهم إلى أرقام فلكية.
ومن بعضه أيضاً أن مؤتمراتٍ عقدت وتعقد، في دول ومدن قد لا تخطر أسماؤها على البال، هل خطرت في بالكم يوماً لاتفيا، وهل سمعتم باسم عاصمتها ريغا التي استضافت مؤتمراً عن العراق لم يسمع به أحد، وهل سمعتم بنية عقد مؤتمر في كوبنهاغن عاصمة الفايكنغ لرؤساء عشائر الأنبار الذين سوف تتاح لهم فرصة التعرّف إلى طرق الصيد هناك، وقد يمكنهم نقل التجربة إلى مناطقهم التي يرفعون راية تحويلها إلى إقليم، وربما يكون بعض من سيحضر قد قرأ وهو صغير قصة "حورية البحر"، أو سمع على الأقل باسم كاتبها هانز كريستيان أندرسن، وستتاح له مشاهدة "الحورية" نفسها، منتصبةً على صخرة وسط المدينة.
ما هو متواتر ولافت أن بعض من يروج مثل هذه المؤتمرات هم من عراقيي الاغتراب، وبعضهم لم تطأ أقدامه أرض العراق منذ أكثر من عقد، ولا يعرف عما استجدّ من أوضاعها واختلف سوى النزر اليسير، ما يجعل طروحاته أسيرة نظرةٍ ضيقةٍ، وربما بعيدة عن تلمس المشكلات والأزمات الحقيقية التي يعاني منها أهل الداخل. هذا يذكّرنا بحكاية اللقاء الذي قيل إن الرئيس بوش عقده مع معارضي صدام حسين، قبل الغزو بشهور، لسماع وجهات نظرهم في ما يجري في يلادهم. وعندما لاحظ أنهم لم يقدموا له أكثر مما يعرفه قال لهم بامتعاض: "نعرف عن بلادكم أكثر مما تعرفون، يبدو أن أحدكم لا يعرف حتى الشارع الذي كان يضم مسكنه عندما كان في العراق".
وقيل إن بوش، بعد تلك الواقعة، لم يحضر أي لقاء لمعارضين عراقيين، وأوكل المهمة لبعض مساعديه، وأخشى أن أقول إن حال معارضي الاغتراب اليوم ليس أحسن من حال معارضي الأمس القريب.
سؤال: لماذا لا يتقدم ناشطو الخارج صوب بغداد لعقد مؤتمرهم، ومواجهة خصومهم هناك من دون خوف؟ ألا يستحق وطنهم الأول قدراً من التضحية والشجاعة والحكمة، أم هم ينتظرون التغيير، ليجيئوا على أول طائرة، ليتسلموا مفاتيح بغداد؟
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"