عذراً.. الخط الإنساني مقطوع

02 نوفمبر 2017
+ الخط -
"يا عمال العالم اتحدوا"
عندما تتشابك أيدي العمال لتشكل قبضة عمالية فولاذية موحّدة. عندها فقط يمكن أن يتحقق مبدأ الكرامة والعدالة والمساواة للفئة العمالية.
كان لبنان السبَّاق في التوقيع على المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق العمال والموظفين، ويعتبر نص قانون العمل اللبناني تحفة جميلة، ويمكن تشبيهه بالقصر المذهّب الذي يبهر أعين الناظرين، لشدة روعته. ولكن للأسف ليس متاحاً للجميع!
"لبنان هو وطن ديموقراطي ارتبط اسمه بالثقافة والإبداع والحرية، ويولي اهتماما كبيرا لمسألة حقوق الإنسان"، هذه العبارة البسيطة تعطي فكرة عامة عن لبنان.
ولكن مهلاً! ففي بلد التناقضات، ما أجمل القشور وما أبشع اللباب، وما أجمل الكلام وما أبشع الواقع. إنه وطن يفاخر بالديموقراطية وحقوق الإنسان، ولكن على أرض الواقع، الحقوق مهدورة والديموقراطية زائفة والرقابة مفقودة.
إليكم، يا أصحاب المقامات ويا عشاق الكراسي المخملية، أرسل إليكم دعوة إلى النزول إلى أرض الواقع، ورؤية الظلم عن كثب.
البارحة قابلتُ عاملاً، وقد روى لي حكايته التي تختصر كل الوجع والظلم اللاحق بالعمال. إنه بطل في أعين أهل الحق والعدل، ومذنب في أعين الدولة ومؤسستها القضائية.
لظلم القدر وصعوبة ظروف الحياة ترك الطفل (ح. ه) مقعد الدراسة باكراً، وهو لم يكمل الرابعة عشر من عمره، ودع أصدقاء المدرسة والأساتذة، رمى كتبه في السرداب المهجور وخلع ثوب الدراسة. اختار الشاب الصغير مرغماً عالم العمل والخطر والمتاعب، فتَّح عينيه البريئة على ظلم البشر وقساوة المجتمع، ارتدى ثوب العمل الممزوج بالقبح والأوساخ، تعرف على زملاء العمل الكامنة داخل أعينهم قصص الظلم والقسوة، وبدأت مسيرة الشقاء. أصبحت حياة هذا الطفل كابوساً مرعباً وقد سار مقيداً بسلاسل الروتين والإجبار كل يوم إلى عمله، لا يوجد لديه خيار آخر سوى العمل.
مضت ثلاث سنوات على عمله في مصنع الكرتون، هذا العمل الذي يُعد مخالفاً للمادة 23 من قانون العمل اللبناني المعدلة، وفقاً للقانون 536 تاريخ 24/7/1996، والتي تنص على أنه "يحظر استخدام الأحداث في المشاريع الصناعية والأعمال المرهقة أو المضرة بالصحة".
مضت ثلاث سنوات وكان راتبه 350 ألف ليرة لبنانية، أي تحت الحد الأدنى للأجور في وقتها (450 ألف ليرة)، وهذا مخالف للمادة 44 من قانون العمل اللبناني، والتي تنص أنه "يجب أن يكون الحد الأدنى من الأجر كافياً لسد حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته على أن يؤخذ بعين الاعتبار نوع العمل ويجب أن لا يقل عن الحد الأدنى".
أصبح الشاب الصغير على عتبة سن الـ 17، وكان اليوم المشؤوم، ففي 14/9/2007، وبينما كان يقص حزمة من الكرتون، هوى المقص عامودياً، حيث بتر أصابع اليد اليمنى، وأربعة أصابع من اليد اليسرى.
إنها جريمة بحق الطفولة والإنسانية، لم يكن خطأ العامل، بل كان بسبب عطل تقني طرأ على الآلة. وقد حضر الطبيب الشرعي، وجاء تقريره ليؤكد الظلم وبشاعة المشهد.
لم يكن هناك فريق عمل دائم للصيانة لدى المعمل، فالصيانة كانت تقتصر على تصليح الأعطال عند الحاجة، الأمر المخالف للمادة 61 من قانون العمل اللبناني الذي ينص على أنه "يجب أن تكون المؤسسة مهيأة على وجهٍ يضمن سلامة الإجراء. أما الالآت والقطع الميكانيكية وأجهزة الإنتقال والأدوات والعدد، فيجب أن تراعي، في تركيبها وحفظها، أفضل شروط ممكنة للسلامة".
أبدت صاحبة المعمل حسن نية في البداية، وقد اعترفت، في ورقة رسمية، أنه في حال تمنعت شركة التأمين، فهي سوف تقوم بدفع كل المصاريف في المستشفى مع العطل والضرر.
وفي تقرير صادر عن مستشفى بيروت الجامعي (أوتيل ديو دو فرنس)، ينص على أن الضحية بحاجة ملحّة إلى عملية جراحية أخرى. ولكن تمنعت هذه المرة صاحبة العمل عن دفع تكاليف العملية الثانية، وبسبب الظروف المعيشية الصعبة لم يستطع الضحية القيام بالعملية، والأمل البسيط قد فُقِدَ بعد مرور فترة على الحادث. لم تحترم صاحبة العمل كلمتها، لا بل نقضت كل ما وعدت به، فبدل أن تساعده في تكاليف إجراء عمليته الثانية، وتدفع له بدل العطل والضرر، كان القضاء هو الخيار وسيد الموقف، ولم يكن للرحمة والإنسانية مكان.
عندما نظر القاضي إلى حالة الضحية، قال له "قطعتلي قلبي.. بدي بينلك حقك"، بحسب الضحية. ولكن، وبسبب الفساد والمحسوبيات في لبنان، أصبح الضحية هو المذنب، وصدر القرار بإعلان براءة المدّعى عليها.
501A9E68-8C18-4C80-BA7E-865C6A9550D1
501A9E68-8C18-4C80-BA7E-865C6A9550D1
محمد زريق (لبنان)
محمد زريق (لبنان)