عثرات وزير تونسي

11 مارس 2017

رياض المؤخر.. من احتراف الطب إلى وزيرالشؤون المحلية والبيئة

+ الخط -
أن تكون طبيبا ماهرا لا يعني بالضرورة أن تكون سياسيّا بارعا، والأمر هنا ينطبق على وزير الشؤون المحلّية والبيئة في حكومة الوحدة الوطنية في تونس رياض المؤخر الذي سبق أن احترف الطب، واختصّ في التبنيج والإنعاش سنين، وتنقّل في العمل بين القطاعين، العامّ والخاص، وأفاد الناس في هذا المجال. وانتقل الرجل بعد الثورة إلى خوض غمار السياسة، وكان من المؤسّسين لحزب آفاق تونس (28 مارس/آذار2011) ، الذي تولّى تمثيله في مجلس نوّاب الشعب بعد فوزه في الانتخابات التشريعية (2014)، وتمّ توزيره في حكومة يوسف الشاهد مراعاة لحصّة الحزب من الائتلاف الحاكم. ووعد الوزير ببعث هيكل للشرطة البيئية، ورسكلة النفايات ( تدوير)، وتعزيز اللامركزية. وبدل السعي إلى تحقيق هذه الوعود وغيرها من المطالب الشعبية، من قبيل التنمية الجهوية، وحملات النظافة اليوميّة، والحدّ من التلوّث الصناعي، ونشر ثقافة الاقتصاد الأخضر، انصرف الوزير إلى البحث عن الظهور الإعلامي المكثّف، وكان من عثراته أن انخرط في أحد البرامج التلفزية في التحامل على قناة الجزيرة، واتّهمها بالتسرّع والارتجال في أثناء تعليقه على صورة مفبركة بتقنية "الفوتو شوب"، تعرض لاحتجاج فوضوي في جهة القصرين، نسبت باطلا إلى "الجزيرة"، قصد تشويهها والإساءة إليها. وكان الوزير في عدم التزامه التحفّظ، وتعجيله بتأييد مقدّمة البرنامج حقيقا بصفة المرتجل وعديم التحرّي. ولم يكلّف نفسه بعد تلك العثرة عناء الاعتذار للقناة ومشاهديها والعاملين فيها.
وفي خطوة ارتجالية، عمد المؤخّر، بحسب النائبة سامية عبّو( التيار الديمقراطي)، إلى انتداب مستشار له علقت به شُبه فساد، وصدر في شأنه حكم قضائي ابتدائي بالسجن أربع سنوات،
وجاء في مداخلتها في مجلس نوّاب الشعب أنّ ذلك تمّ في إطار "عقد خاصّ، وقّع عليه الوزير، ويتقاضى بموجبه المستشار أجرا سنويّا يُقدّر بأربعين ألف دينار، وهو ما يشوبه قانونيّا تضارب مصالح، لأن الشخص المعني موظف في القطاع العمومي، ويشتغل أستاذا جامعيا مساعدا، ويتقاضى راتبه من الدولة، ويفترض ألاّ يجمع بين وظيفتين". لكن وزير البيئة أنكر تلك المآخذ على أدائه في الوزارة، قائلا إنّ مستشاره لم يتورّط في قضايا فساد مالي، بل علقت به شبهات فساد إداري فحسب، وهي مدار نظر القضاء، وأفاد بأنّ العقد لم يكن "خاصّا بل كان عقد إسداء خدمات لم يوقّع عليه بعد". لكنّ النائبة ما لبثت أن واجهت الوزير في الحين بنسخة من العقد ممهورا بتوقيعه، ومشتملا على كلّ المعلومات التي ذكرتها سابقا (نوع العقد، المدّة، الأجر...).
واكتفى الوزير إزاء ذلك بأن همهم ومسح شعر رأسه، في حركة دالّة من منظور علم النفس على الحيرة والشعور بالحرج. وبعد الخروج من البرلمان، صرّح لوسائل إعلام بأنه لا يرى حرجا في تعيين مستشار علقت به شبه فساد، وصدر في شأنه حكم ابتدائي بالسجن بضع سنوات، متعلّلا بكفاءته، متناسيا أنّ الكفاءة تقتضي النزاهة.
ودلّت المواجهة المباشرة بين الوزير والنائبة أمام الكاميرا، على الرغم مما اعتراها من انفعال من الجانبين، على توازن في توزيع الحكم في تونس بعد الثورة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، حيث يمارس البرلماني صلاحياته في مراقبة أداء أعضاء الحكومة، وترفده في ذلك وسائل الإعلام متى كانت مهنية.
وسلوك الوزير يمكن أن يُفهم تسرّعا في انتداب شخصٍ لم يكن على علم بسجلّه العدلي، أو
على أنّه محدود الخبرة بشؤون السياسة وفنون الإدارة وتسيير الوزارة. لكنّ الثابت أنّ الرجل لم يتدرّب بعد على ثقافة الاعتذار، ويتصرّف كأنّه طبيب يقدّم وصفة علاج، ولا يحتمل النقاش، ولا يؤمن بأنّ الخطأ وارد، وأنّ الاعتذار ممكن، وأنّ الشفافية تقتضي مصارحة الناس بدل مخاتلتهم. والواقع أنّ ما حصل فيه استبلاه للناس، وانحرافٌ عن النزاهة، وبعد عن الشفافية، وإهدار للمال العام، وهروبٌ إلى الأمام. وقد ملأت الحادثة شبكات التواصل الاجتماعي، وشغلت الناس في تونس، ويُخشى أن تؤثّر سلبا على مصداقية حكومة الوحدة الوطنية، وجهودها المعلنة في السعي إلى الإصلاح والتغيير ومكافحة الفساد. وذلك في وقت تحتاج فيه هذه الحكومة إلى بعث رسائل طمأنة إلى التونسيين، تخرجهم من دوائر الشك واللايقين، وتجعلهم يثقون، ولو إلى حدّ ما، في الأجهزة الحاكمة.
كان بالإمكان أن يتلافى الوزير عثراته بشيء من التواضع ومراجعة الذات، والتوجّه نحو التحقيق والتصحيح، وتغيير ما يجب تغييره، والاعتذار على الأقلّ ممن أخطأ في حقّهم، حتّى يتفادى الدعوات إلى إقالته أو استقالته أو سحب الثقة منه. لكنّ الظاهر أنّه خيّر الهروب إلى الأمام، وهو ما لا يخدم تجربة الانتقال الديمقراطي ومساعي إرساء تقاليد الحوكمة الرشيدة في تونس الجديدة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.