جاءت الكاتبة والمخرجة السورية، عبير اسبر (1974)، إلى الرواية بأحلام سينمائية. عملها الروائي الأول، "لولو"، كان في الأصل سيناريو لفيلمٍ ظلّ حبيس الورق. وحين سمعتْ عن جائزةٍ للرواية في وزارة الثقافة السورية تحمل اسم "جائزة حنا مينه"، حوّلت اسبر نصّ الفيلم إلى رواية.
تقول لـ"العربي الجديد": "جائزة للرواية بقيمة 100 ألف ليرة سورية، هذا ما كان يهمني، أنا المخرجة المفلسة آنذاك، التي كانت تحتاج إلى المبلغ كي تشتري كاميراتها الأولى وتصنع فيلمها المحلوم، فتكتب عملاً يحصل على الجائزة الأولى، وتتورّط بصفة الروائية من دون أن تشتري كاميرا".
لكنْ كيف تكون ورطة وقد تتابعت رواياتها، بحيث يستنتج القارئ والمتابع بأنه حيال سياق طبيعي لإنتاج يتراكم مع الوقت؟ تأخذ عبير الموضوع إلى زاويتها، فتقول: "هي بالطبع ورطة. الرواية الثانية كتبتها في ما يشبه تصفية الحسابات مع الواقع، مع الآنيّ في حياتي، ومع الذاكرة أيضاً. لم أكن قادرةً على متابعة العيش إن لم أروِ تلك الرواية؛ "منازل الغياب"، كتبتها تحت وقع ألمٍ أكره استعادته. إلى غاية الآن، لا أستطيع قراءة بعض من أجزائها".
"منازل الغياب" هي حكاية عائلة عبير، وتحديداً، نساء تلك العائلة. تقول حول هذا الموضوع: "لأول مرّة أتطابق مع النص من دون اتّخاذ مسافة أمان، أو مساحة تأمل، وهذه حالة غير مجدية، وغير صحية، سواء في إنتاج رواية أو أي نوع فني آخر. الفن هو منتج شرعي للوعي لا تجوز فيه غيبوبات الألم أو النشوة، أو أي نوع من أنواع الاستلاب الشعوري. وهذا ما لم يتحقق في تلك الرواية".
بعد سنوات عديدة من محاولة الوصول إلى فيلمها الروائي الطويل، دخلت اسبر إلى مضمار الدراما التلفزيونية، وكتبت وأخرجت، قبل عام ونصف العام، مسلسلها التلفزيوني الأول، "العبور". قبل ذلك، عملت في العديد من الأفلام كمخرجة مساعدة، كما في فيلم "باب الشمس" ليسري نصر الله، و"حسيبة" لريمون بطرس، إضافة إلى إنجازها عدداً من الأفلام القصيرة، مثل "عبق مغادر" (2000) و"تك تك" (2003) و"في شي بالهوى" (2010)، وكتابتها مجموعة سيناريوهات روائية.
نسألها عن هذا الحظ العاثر في مجال الصورة، شغفها الأول، فتجيب: "فعلاً، ليس لدي إجابة على هذا السؤال، مع أنه سؤالي الدائم. ظننتُ أنني، بذهابي إلى التلفزيون، سأقترب من السينما، بعد الحصول على الأحقية من خلال لقب مخرجة. وحتى الآن، لا أدري إن كنتُ اخترتُ القرار الصائب. السينما، شغفي الأكبر، كلما لاحقتها انسربت كالماء، لكنه ماء يخصّب الطريق.. ماء غير مهدور، وهنا المفارقة. طريقي إلى السينما جعل حياتي أكثر غنى وتنوعاً، ولولاها لما كتبتُ الأدب".
تكتب عبير، هذه الأيام، فيلماً عن حياة عائلتها في حمص، المدينة التي صارت أطلالاً اليوم. تقول: "سأحكي عن بيت العائلة. هناك حضور قوي للموسيقى والأغاني والعمارة. إنه عمل عن حمص التي أعرفها، عن أحيائها الصاخبة، مثل بستان الديوان والحميدية وكنيسة الأربعين. هناك جدّة هاذية وحفيدة شقية، وبالطبع هناك الطعام، لا سيما الكبة. ربما يمكن اعتباره فيلماً عن الكبة".
لا تنفي صاحبة "قصص ورق" تقاطع سيناريو الفيلم مع روايتها الثانية، "منازل الغياب". تقول: "لا أعتقد أننا ننجو من علاقتنا مع المكان الأول"، قبل أن تضيف: "ما أتمناه أن يكون الفيلم مخلصاً لرؤيتي الآن، سواء كانت تتناول الماضي أو لا تشتبك معه. كل ما أراهن عليه هو شغفي ورغبتي الخالصة في إنتاج حكاياتٍ أتشاركها مع الآخرين".
"لكنكِ، دوماً، كنت تكرهين الحكاية"، نستفسر، فتردّ: "أكره الـ"كان يا مكان" وأحب الدراما. هناك فرق كبير بين الحكاية كمجرد لغة أو حدوتة، والدراما. المنجز البشري الأهم هو التجلي الحكائي لكل فعل، سواء كان هندسياً، دينياً، لغوياً أو سينمائياً. بهذا المعنى، نحن نبحث عن الحكاية، عن الدراما في كل شيء".
تؤمن صاحبة "لولو" بضرورة فصل السينمائي عن الروائي: "لا أريد متكئات سينمائية في الرواية، ولا متكئات أدبية في الفيلم. لا يوجد صحيح هنا وخطأ هناك. لا أحب القفز بين الصفات. تلك ميوعة. العمل الفني ينجز في داخلي بشكل واحد، إما كتابي أو سينمائي". كما لا تؤمن بالعمل على رواياتها كأفلام: "كما قال ماركيز، العمل المنجز هو أسد ميت. عندما أكتب شيئاً ما، أكتبه بشكل فني واحد، ولمرة واحدة، ولن أعود إليه. ليس هذا خياراً بمقدار ما هو شيء نفسي وروحي. هل تعود إلى مكان جريمتك السابقة؟ هل هناك ما يغريك في ذلك المكان؟ أعني هل ثمة شيء جديد؟".
وتشير: "بدأت منذ فترة بكتابة رواية، ما يغريني فيها أنها بلا حكاية. رواية عن شخصية بلا ذاكرة، بلا اسم. رواية اللاأحد، بطلها عدمي بامتياز. الرواية تغريني بمدى تجريبيتها. هذه أول مرة أكتب رواية ولا أعرف إلى أين ستقودني. بدأتها ولم يكن لدي سوى جملة افتتاحية. الآن صارت لدي ثلاثة فصول جاهزة".
أفكار روايتها، بالعموم، تدور حول عبير نفسها، فهي شخصية وراوية تشدّ السرد نحو عالمها وحكاياتها وأحلامها. ربما فقط في "منازل الغياب" كانت حكايات الآخرين هي المتن. الآن، بعد الحرب، وانهيار كل شيء، ما الذي تعتقد عبير أنه تغيّر فيها؟
تجيبنا: "الارتباك.. الآن وضعتُ يدي على المعنى الفعلي للارتباك بكل حالاته ومعانيه، وتعلّمتُ الغفران. في لحظات الخراب العام، لا يمكن للنجاة إلا أن تكون فرديةً، لكن، في الحالة السورية، المأسأة وحّدت الجميع في البؤس. الجسد السوري مصاب، من يستطيع، في أكبر عملية تهجير في التاريخ الحديث، أن يعود للأسباب ولا يعلق بالنتائج؟ الآن أنا عالقة في النتائج، نتائج الكارثة. وفي وضع كهذا، لا يمكن العيش دون مساحة كافية من الغفران، وإلا فعبثُ ما يجري قد يبتلعنا نحن وما بقي فينا من إنسانية. نحن شعب مبتور الروح، ولا يمكن لشيء أو حالة على وجه الارض أن تداوي مثل هذا الخراب".