عبودية جديدة في مكاتب فارهة

26 ديسمبر 2016
+ الخط -


يعتقد الكثير منا بأن نهايات القرن التاسع عشر أسست بيئة مناسبة للقضاء على العبودية وإخفاء جميع مظاهرها، على الأقل في المناطق الأكثر تحضرا، لا سيما أوروبا وأميركا الشمالية.

خلع الرقيق ثيابهم الرثة، تساووا مع أسيادهم وشاركوا في الحياة العملية المدفوعة الأجر.


لم تمض سنون قليلة حتى تسارعت عجلة الإنتاج العالمي في كافة المجالات والقطاعات، وتزايدت الحاجة للعمال والموظفين وارتفعت الأجور، وبدأ الفقر بالانكفاء التدريجي مقابل ظهور واسع للطبقة الوسطى التي بات لها الحضور الأكبر في دول العالم الأول والدول اللاحقة بركب التطور الصناعي.


بدأت المدن بالتضخم والشركات بالتوسع والنشاطات التجارية بالتطور، انفتحت أوروبا على أميركا، وفتحتا معًا أسواق العالم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والشرق الأقصى، وأسستا هناك مدنا ضخمة على هيئة نيويورك ولندن ولوس أنجليس.


تطاول البشر في البنيان حتى عانقت الناطحات سحب السماء، لا بل تعدتها وبدأت المدن بالاقتتال على أعلى برج وأوسع طريق وأضخم ملعب واللائحة تستمر ، بينما يموت الناس جوعا في أفريقيا وآسيا وأحيانا في أزقة باريس وأحياء ميامي.


وثارت التكنولوجيا مخلفة ضحايا للحضارة لم تسببها الحربان العالميتان الأولى والثانية مجتمعتين. غزت التكنولوجيا ومعها "حضارتها القاتلة" أبعد أكواخ الأرض وبسطتا الأرض على سجادة عجمية زركشتها أيادي أطفال فقراء يكادون يموتون جوعا بينما نتفاخر نحن بالدوس على صوفها وحريرها ببذخ يكاد يكون مخيفاً إذا قارناه بكمية الطعام التي يستهلكها مجتمع كامل في مجاهل الأمازون.

استطاعت التكنولوجيا أن تذيب جليد القطبين وأن تحول صحارى العرب إلى واحات خضراء ومروج واسعة، ولكن..

لقد أسست التكنولوجيا بسرعتها وتعدد مجالاتها، وتسهيلها لكل الصعوبات وتذليلها لكل العقبات، ووصلها المدن ببعضها وتحويلها الليل إلى نهار، ليعمل الكون على مدى 24 ساعة خلال 365 يوما لعهد جديد مرعب من العبودية.

جديد لأنه عاد إلى الحياة، ومرعب لأنه عاد إلى الحياة على شكل أبنية شاهقة وسيارات فخمة وبيوت أنيقة وألبسة عصرية. فبينما يظن سكان المدن الكوزموبوليتية كتورونتو وريودي جانيرو وبرلين وإسطنبول وسنغافورة، بأنهم يعيشون تجربة العيش الرغيد، وبينما نحسدهم نحن على معيشتهم التي نظن أنها جنة على الأرض، تغوص أقدام سكان مثل هذه المدن في أوحال الرق.

تكبلهم سلاسل التكنولوجيا وتحتكر حياتهم وسعادتهم وراحتهم وحوش الشركات المتعددة الجنسيات،و التي كادت تقضي على العالم برمته بعدما أصبحت متحكمة به وتقود حروبه في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا وشرقي آسيا، وتحول الطبقة الوسطى إلى فقيرة، والفقيرة الى معدمة، بينما تزيد ثروات قلة قليلة من سكان الأرض لتصبح خيالية.


والفقر هنا لم يعد فقر المأكل والمشرب والملبس، وإنما فقر الرفاهية والسفر واقتناء الكماليات والأرصدة المصرفية التي لا يمكن إحصاء ثرواتها.

نعم لقد حولتنا التكنولوجيا إلى عبيد. عبيد نسكن أجمل أحياء العالم ونقتني أغلى الماركات ونستخدم أحدث التقنيات وننام على أوثر الفرش، عبيد نعيش عيشة لم يحلم بها أباطرة الروم ولا أكاسرة الفرس ولا سلاطين العرب. ولكن ماذا بعد؟؟

إن كل ما نقتنيه ونملكه اليوم ونتمتع به لم يجعلنا سعداء، لا بل جعل منا مخلوقات تعيسة، تستيقظ كل يوم رغم أنفها لتلبس أجمل الملابس وتضع أجمل العطور لتضع أكبال الذهب في أيديها وأرجلها وتذهب إلى العمل، لا بل قد يكون لديها سائق أنيق ومحترم يقودها إلى مقر عبوديتها أقصد عملها.

ويبدأ النهار بشرب أرقى أنواع القهوة أو الشاي التي يقطفها أحرار في سريلانكا أو الهند أو كولومبيا ومن ثم نتبعها بقطع من الشوكولاتة البلجيكية أو السويسرية وكل ذلك ليس من أجل متعتنا الذاتية، وإنما من أجل الحصول على الطاقة لتنفيذ أمور سادتنا وأربابنا.

لقد نسيت أن أقول لكم إنه وفي وهلة عبوديتنا بتنا نعبد المال والجاه والسلطة والحكماء والزعماء، وهنا يكمن الفرق بين عبودية الجيل القديم وعبوديتنا، فعبوديتنا الحالية دينية ودنيوية أما عبوديتهم فكانت دنيوية فقط.

ويبدأ اليوم لننسى الأكل والشرب والأهل والزوجة والأولاد، لنغرق في تنفيذ أهداف ومآرب الأرباب حتى يخيم علينا الليل، لنذهب منهكين إلى بيوتنا. يمضي العمر ولا نستمتع بزقزقة العصافير أو بجمال الشجر أو بخرير الأنهار وتقلب أمواج البحر رغم أن الأرباب قد أمنوها لنا لنظن بأننا أحراراً.

لقد بدأت التكنولوجيا بتحويل حياتنا إلى جحيم لا يطاق، وفي حال استمرت التكنولوجيا هذه في التطور تزامنا مع التطور الفكري والصناعي والمادي فإننا نخاطر بزج الأجيال اللاحقة في غياهب حفر عبودية قد تكون أبدية وما بعد أبدية، لا سيما أن الأعمار باتت أطول، والأمراض بات أكثر عضالة والمشاكل أكثر تعقيدا.

والهدف لا يكمن هنا طبعا في إيقاف التكنولوجيا أو إلغائها من حياتنا، ولكن يكمن في كيفية الاستفادة منها وتحويلها لصالحنا وصالح الأجيال التي ستأتي لاحقا، للقضاء على العبودية الحديثة بسرعة أكبر.

 

D594DF08-0A9F-4CB5-ACDE-58F82742143C
علاء معصراني

كاتب لبناني مقيم في كندا، مهتم بشؤون الشرق الأوسط والعالم العربي. حاصل على درجة ماجستير في العلاقات الدولية من جامعة كيبيك في مونتريال، تمحور موضوعها حول النظرية البنائية في العلاقات الدولية واستخدامها كوسيلة للتأثير على سيكولوجية الجماهير ووعيها الجماعي. شغل العديد من الوظائف في مجال التربية والإعلام والعلاقات العامة والدبلوماسية.