02 نوفمبر 2024
عبد المجيد تبّون.. وعود وتحدّيات
على امتداد تسعة أشهر من الاحتجاج السلمي المكثّف، امتلك الجزائريون الشوارع، وحرّروا المجال العام من هيمنة السلطة الحاكمة، وشكّلوا قوّة ضغط وازنة، أثّرت في أصحاب القرار، وبدّلت المشهد السياسي نسبيّاً. نجح الحراك الاحتجاجي في تنحية عبدالعزيز بوتفليقة، وجعل العهدة الخامسة طيّ التاريخ، ودفع نحو فتح ملفّات الفساد ومحاسبة المفسدين، واستقرب المؤسسة العسكرية التي رافقت الحراك الشعبي، وأمّنت المسار الاحتجاجي. وبعد جدل طويل، اتجه طيف معتبر من الجزائريين إلى صناديق الاقتراع لتكليف رئيس جديد بإدارة قصر المرادية وتسيير شؤون البلاد. وأفرزت العملية الانتخابية فوز عبدالمجيد تبّون (74عاما) بأغلبية مريحة من الدور الأوّل (58.13%). وعقب إعلان السلطة المستقلّة للانتخابات نتائج السّباق الرّئاسي بين المتنافسين الخمسة، عقد تبّون ندوة صحافيّة، قدّم فيها خطاباً رئاسياً افتتاحياً، جلّى خلاله موقفه من الحراك وتصوّره لمشروع التغيير وكيفيات إدارة البلاد في المرحلة المقبلة، واعدا بالقيام بإصلاحات سياسية، ودستورية، واجتماعية، واقتصادية، تُلابسها تحدّيات عدّة.
سياسيّا، وعد عبد المجيد تبّون باعتماد سياسة "اليد الممدودة" في التعامل مع الحراك الاحتجاجي، ووصفه بالحراك "المبارك"، قائلا إنّه "أعاد الجزائر إلى سكّة الشرعية"، وأكّد الرّجل أنّه "مرشّح المجتمع المدني" وليس مرشح السلطة الحاكمة، وصرّح يأن "لا سبيل لاستمرارية التصرّفات السّابقة". وكرّر في خطابه مرارا مصطلح حوار باعتباره مفتاح حلّ الأزمة السياسية، والسبيل لاجتماع الفرقاء تحت راية الوطن، من أجل تحقيق الصالح العام. ودلّ هذا التوجّه على نهج تفاعلي من الرئيس الجديد في التعاطي مع الحالة الاحتجاجية، فهو لا
ينكرها، ولا يُصادرها، ولا ينتقص منها كما دأب على ذلك أنصار الدولة الشمولية في أكثر من بلد عربي. بل يُقرّ بأصالتها وشرعيتها، ومقبولية طموحها إلى الإصلاح والتغيير. ويدعو إلى ضرورة فتح قنوات الحوار بين الحاكم والمحتجّين خصوصا ومكونات المجتمع المدني عموماً لأجل تحديد المطالب والأولويات، وتشخيص أزمات البلاد وآليات تجاوزها لبناء "جمهورية جديدة". ويعدّ إقناع المتظاهرين بترك الشوارع والتوجّه إلى طاولة الحوار مهمّة صعبة، وتحدّيا حقيقيا يسعى تبّون إلى كسبه، ذلك أنّ جموع المحتجّين ليست لهم هيئة تمثيلية أو قياديّة يمكن التفاوض معها، وليسوا على قلب رجل واحد في مستوى موقفهم من خيار الحوار مع النّظام الحاكم، فمنهم من يؤيّد هذا التوجّه، ويبحث عن حلولٍ توافقية، ومنهم من يعارضه ويروم تغيير الطبقة السياسية برمّتها. وتعتري كثيرين شكوكٌ بشأن نوايا السلطة وجدّية مسار الحوار معها. ولذلك من المهمّ أن يتّخذ ساكن قصر المرادية الجديد تدابير إصلاحية فورية، تثبت صدْقية الوعد بالتغيير، وتبعث رسائل طمأنة وتهدئة للنّاس.
دستوريا، وعد عبد المجيد تبّون بأنّه "سيتّجه خلال الشهور الأولى من تولّيه مسؤولية الرّئاسة نحو القيام بتغيير عميق للدستور"، وأنّه سيدعو في هذا الصدد "الأسرة الجامعية، وأساتذة القانون الدستوري، وكلّ من يهمّه الأمر إلى المشاركة في إثراء الدستور، وعرضه للاستفتاء الشعبي". وأهمّية هذه الخطوة في أنّها تؤسّس لإصلاح دستوري معمّق، خصوصا أنّ الرّجل وعد، في حملته الانتخابية، بالنص في الدستور الجديد على الفصل بين السلطات، وضمان
الحرّيات، وإعادة صياغة قانون الانتخابات، والتقليص من صلاحيات رئيس الجمهورية، وهي إصلاحاتٌ جريئة، غير مسبوقة، تؤسّس، في حال حدوثها، لقطيعة تاريخية مع الدستور الحالي الذي قُدّ على مقاس الحزب الحاكم، ويفرض قيودا على حرّية التعبير والتنظم، ويمنح الرئيس صلاحياتٍ واسعة، يجمع بموجبها كلّ السلطات. ومع أهمّية هذا الأفق الإصلاحي الدستوري، فإنّه يواجه عمليّا تحدّيا مضاعفا قوامه صعوبة بلورة دستور تقدّمي، توافقي، جامع في ظلّ التباينات الحزبوية، والجهوية والعصبيّة التي تشقّ الاجتماع السياسي الجزائري الرّاهن، وصعوبة تنازل العقل السياسي القديم عن الامتيازات التقليدية الممنوحة بموجب الدستور لرئيس الجمهورية والحزب الحاكم. وفي حال نجح تبّون في تحقيق إصلاح دستوري معمق، سيحسب ذلك له، وسيساهم في دمقرطة الجزائر لا محالة.
على الصعيد الاجتماعي، بدا عبد المجيد تبّون حريصاً على أن يكون رئيسا جامعا، منفتحا على كلّ مكوّنات المجتمع المدني، قائلا إنّه لا يقبل بإقصاء أيّ طرف، وإنّه سيتعامل مع الجميع، بما في ذلك المقاطعون للانتخابات، واعدا بأنّه "سيزور كلّ ولايات الوطن دَشْرَة .. دَشْرَة" (قرية قرية). وفي ذلك تكريس لصورة الرئيس القريب من النّاس، صورة تقطع، ولو نظريا، مع نمط الرئيس المتعالي، المكتفي بمتابعة الشأن العام من برجه العاجي في قصر الرّئاسة. وفي سياق متّصل، وعد تبّون بتمكين الشباب في المشهدين، السياسي والاقتصادي، وتسليمهم مشعل القيادة في إدارة هياكل الدولة والمجالس التمثيلية، وبتحسين الوضع الحقوقي للمرأة وتعزيز حضورها في المجال العام، والإحاطة بذوي الاحتياجات الخاصّة والفئات الهشّة. ويساهم تنفيذ هذه الوعود في بثّ روح الثقة بين الحاكم والمحكوم، ويضمن توسيع الحاضنة الاجتماعية الداعمة للرئيس. ولكن كسب هذا التحدّي يقتضي سنّ تشريعات ثورية، وانتخاب برلمان جديد يرفد مشروع
التغيير، ويسنّ قوانين تعزّز الدور الاجتماعي للدولة وفرص إدماج الشباب والمرأة وعموم المهمّشين في مشروع بناء جمهورية مواطنية تقدّمية جديدة.
من الناحية الاقتصادية، يرث الرئيس الجديد تركةً ثقيلة خلّفها نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي شهدت عهدته الأخيرة صعود ما يُعرف باقتصاد الحاشية والعائلة الحاكمة، وشيوع العلاقات الزبونية بين المتنفذين في السلطة ورجال الأعمال، وانتشار ظواهر الاحتكار، والرشوة، والمحاباة، والتهرّب الضريبي، وإهدار المال العام. ويواجه تبّون وفريقه الرئاسي تحدّيات ارتفاع الأسعار، وتدهور المقدرة الشرائية للمواطنين، وانحدار قيمة الدينار الجزائري أمام العملات الأجنبية، والتراجع السريع لاحتياطي الصرف الأجنبي (لا يتجاوز 73 مليار دولار)، واستعادة الأمول المنهوبة من الجنّات الضريبية (المقدّرة بحوالي 20 مليار دولار)، وشحّ الموارد الماليّة في ظلّ انهيار أسعار النفط، وتفاقم العجز التجاري. ووعد الرئيس بحلحلة المعضلات الاقتصادية الجمّة عبر ترشيد الإنفاق العام، والتحكّم في نسق الاستيراد، وبذل الجهد في استرجاع الأموال المسروقة، ومكافحة لوبيات الفاسدين. ومن المهمّ في هذا السياق التوجه نحو تنويع الشراكات الاقتصادية، ومسالك التصدير، والتخفيف من التدابير الإدارية البيروقراطية، وتعزيز دور الدولة في بعث مشاريع إنتاجية/ تشغيلية، وتوفير مناخ تشريعي، ولوجيستي، وبنيوي، جاذب للاستثمار المحلّي والأجنبي على نحوٍ يسمح بضخ أموال جديدة لخزينة الدولة، ويحدّ من البطالة. ومعلوم أنّ تحقيق هذه المطالب يقتضي ضمان السلم الاجتماعي، والاستقرار الأمني، والتخفيف من عسكرة الشارع، وحالة الاستقطاب، والتوجّه نحو تشكيل إطار قانوني وحزام مدني تعدّدي داعم لمشروع الإصلاحات الاقتصادية. ويستدعي ذلك الكثير من التعقّل، والتشاور، والتوافق بين مكوّنات الاجتماع الجزائري.
ختاماً، يمكن القول إنّ عبد المجيد تبّون تلقّف مبكّرا رسائل الحراك الاحتجاجي، وتفاعل معها إيجابيا، وأعاد بناء ميولاته السياسية سريعا، مقرّا بشرعيّة الانتفاضة الشعبية، معبّرا عن فخره بالانتساب، ولو نظريّا، إلى الفضاء الاحتجاجي، ورفع خلال حملته الانتخابية شعار"بالتغيير ملتزمون وعليه قادرون"، فهل تُراه الآن وهو على كرسيّ الرّئاسة قادرا على تحقيق التغيير المنشود، وتحويل وعوده الإصلاحية إلى واقع يحياه الجزائريين؟ سؤال تجيب عنه مستجدّات المرحلة المقبلة.
دستوريا، وعد عبد المجيد تبّون بأنّه "سيتّجه خلال الشهور الأولى من تولّيه مسؤولية الرّئاسة نحو القيام بتغيير عميق للدستور"، وأنّه سيدعو في هذا الصدد "الأسرة الجامعية، وأساتذة القانون الدستوري، وكلّ من يهمّه الأمر إلى المشاركة في إثراء الدستور، وعرضه للاستفتاء الشعبي". وأهمّية هذه الخطوة في أنّها تؤسّس لإصلاح دستوري معمّق، خصوصا أنّ الرّجل وعد، في حملته الانتخابية، بالنص في الدستور الجديد على الفصل بين السلطات، وضمان
على الصعيد الاجتماعي، بدا عبد المجيد تبّون حريصاً على أن يكون رئيسا جامعا، منفتحا على كلّ مكوّنات المجتمع المدني، قائلا إنّه لا يقبل بإقصاء أيّ طرف، وإنّه سيتعامل مع الجميع، بما في ذلك المقاطعون للانتخابات، واعدا بأنّه "سيزور كلّ ولايات الوطن دَشْرَة .. دَشْرَة" (قرية قرية). وفي ذلك تكريس لصورة الرئيس القريب من النّاس، صورة تقطع، ولو نظريا، مع نمط الرئيس المتعالي، المكتفي بمتابعة الشأن العام من برجه العاجي في قصر الرّئاسة. وفي سياق متّصل، وعد تبّون بتمكين الشباب في المشهدين، السياسي والاقتصادي، وتسليمهم مشعل القيادة في إدارة هياكل الدولة والمجالس التمثيلية، وبتحسين الوضع الحقوقي للمرأة وتعزيز حضورها في المجال العام، والإحاطة بذوي الاحتياجات الخاصّة والفئات الهشّة. ويساهم تنفيذ هذه الوعود في بثّ روح الثقة بين الحاكم والمحكوم، ويضمن توسيع الحاضنة الاجتماعية الداعمة للرئيس. ولكن كسب هذا التحدّي يقتضي سنّ تشريعات ثورية، وانتخاب برلمان جديد يرفد مشروع
من الناحية الاقتصادية، يرث الرئيس الجديد تركةً ثقيلة خلّفها نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي شهدت عهدته الأخيرة صعود ما يُعرف باقتصاد الحاشية والعائلة الحاكمة، وشيوع العلاقات الزبونية بين المتنفذين في السلطة ورجال الأعمال، وانتشار ظواهر الاحتكار، والرشوة، والمحاباة، والتهرّب الضريبي، وإهدار المال العام. ويواجه تبّون وفريقه الرئاسي تحدّيات ارتفاع الأسعار، وتدهور المقدرة الشرائية للمواطنين، وانحدار قيمة الدينار الجزائري أمام العملات الأجنبية، والتراجع السريع لاحتياطي الصرف الأجنبي (لا يتجاوز 73 مليار دولار)، واستعادة الأمول المنهوبة من الجنّات الضريبية (المقدّرة بحوالي 20 مليار دولار)، وشحّ الموارد الماليّة في ظلّ انهيار أسعار النفط، وتفاقم العجز التجاري. ووعد الرئيس بحلحلة المعضلات الاقتصادية الجمّة عبر ترشيد الإنفاق العام، والتحكّم في نسق الاستيراد، وبذل الجهد في استرجاع الأموال المسروقة، ومكافحة لوبيات الفاسدين. ومن المهمّ في هذا السياق التوجه نحو تنويع الشراكات الاقتصادية، ومسالك التصدير، والتخفيف من التدابير الإدارية البيروقراطية، وتعزيز دور الدولة في بعث مشاريع إنتاجية/ تشغيلية، وتوفير مناخ تشريعي، ولوجيستي، وبنيوي، جاذب للاستثمار المحلّي والأجنبي على نحوٍ يسمح بضخ أموال جديدة لخزينة الدولة، ويحدّ من البطالة. ومعلوم أنّ تحقيق هذه المطالب يقتضي ضمان السلم الاجتماعي، والاستقرار الأمني، والتخفيف من عسكرة الشارع، وحالة الاستقطاب، والتوجّه نحو تشكيل إطار قانوني وحزام مدني تعدّدي داعم لمشروع الإصلاحات الاقتصادية. ويستدعي ذلك الكثير من التعقّل، والتشاور، والتوافق بين مكوّنات الاجتماع الجزائري.
ختاماً، يمكن القول إنّ عبد المجيد تبّون تلقّف مبكّرا رسائل الحراك الاحتجاجي، وتفاعل معها إيجابيا، وأعاد بناء ميولاته السياسية سريعا، مقرّا بشرعيّة الانتفاضة الشعبية، معبّرا عن فخره بالانتساب، ولو نظريّا، إلى الفضاء الاحتجاجي، ورفع خلال حملته الانتخابية شعار"بالتغيير ملتزمون وعليه قادرون"، فهل تُراه الآن وهو على كرسيّ الرّئاسة قادرا على تحقيق التغيير المنشود، وتحويل وعوده الإصلاحية إلى واقع يحياه الجزائريين؟ سؤال تجيب عنه مستجدّات المرحلة المقبلة.