يكاد المُصلح الجزائري، عبد الحميد بن باديس (1889 - 1940)، يدخل دائرة القداسة، هو المكرّس في المناهج التربوية بوصفه "أباً روحياً" للجزائر المستقلّة. من هنا، فإن تناوله بمنظورٍ مختلف، كما في كتاب الباحث والمترجم عبد الله حمادي "ابن باديس.. سيرة ومسيرة"، يبدو محفوفاً بالمغامرة.
يتزامن الكتاب، الصادر مؤخراً عن "دار الوطن اليوم"، مع السجال المتواصل حالياً في الجزائر بشأن شخصية ابن باديس ودورها التاريخي، في سنة أُنتج فيلمٌ سينمائي ومسلسلٌ تلفزيوني يتناولان سيرته، وكُتبت الكثير من المقالات التي تحاول الاقتراب منها من زوايا مختلفة، وكثيراً ما تحوّلت إلى مادّة للمناكفات الأيديولوجية.
ولئن كانت كتابة سيَر أعلام الجزائر عموماً، تكتنفها صعوبة بالغة، بسبب غياب الوثائق المكتوبة؛ حيث يُعتمد غالباً على المرويات الشفوية التي تتضارب وتبتعد في كثير من الأحيان عن روح التاريخ، فإن الأمر يختلف مع المعلومات الواردة عن أصول عائلة ابن باديس، والتي قال المؤلّف إنه استقاها من مصادر "لا يرقى إليها الشك"؛ إذ اعتمد على كتاب "أعيان المغاربة" للمستشرق الفرنسي إدمون غوفيون وزوجته مارثا، والذي صدر في الجزائر عام 1920، وتناول أبرز الشخصيات المؤثّرة في المجتمعات المغاربية في ذلك الوقت.
بعد الحديث عن الماضي البعيد "الجميل" للعائلة الباديسية التي يقول إن أصولها تعود إلى زيري بن مناد الصنهاجي، مؤسّس الدولة الزيرية التي قامت في المغرب الأوسط بين سنتَي 971 و1152 للميلاد، تأتي الحقائق الصادمة مع بدايات الاحتلال الفرنسي للجزائر؛ حيث يشير المؤلّف إلى "الولاء المطلق" لجدّ، ثم والد عبد الحميد بن باديس لسلطات الاحتلال، إلى درجة أن جدّه المكّي، والذي كان قاضياً معروفاً، تقلّد وساماً من يدَي الإمبراطور نابليون الثالث.
يتساءل المؤلّف عن سرّ خروج "الابن البار" عن سبيل أجداده "في ولائهم المطلَق للسلطة الاستعمارية الفرنسية وجهره بالرفض لكل تلك الولاءات التي توشّح صدور آبائه وأجداده". وهذا هو السؤال الرئيسي "المحرِج" الذي يدور حوله الكتاب.
اشتغل الشيخ الإصلاحي في الصحافة طويلاً، وأصدر الكثير من العناوين، وكانت مقالاته التي هادن فيها سلطات الاحتلال أحياناً، وتحدّاها في أحايين أخرى، مصدراً رئيسياً لمحاولات رسم صورة عنه. وهو ما يفعله المؤلّف أيضاً؛ إذ يحاول، بالاستناد إليها، تشكيل صورة متوازنة بعيداً عن نمطية صورة "رائد النهضة الجزائرية" التي رسّختها المنظومة الرسمية منذ سنوات الاستقلال الأولى.
ينقل حمّادي اعتراض أعيان قسنطينة على إسناد منصب التدريس في "الجامع الأخضر"، في قسنطينة، إلى ابن باديس، بمساعٍ من والده؛ حيث ظهر لرجال العلم في المدينة، وربّما بإيعازٍ من مفتيها، أن هذا الشاب الصغير لا يملك من المؤهّلات العلمية ما يخولّه الاضطلاع بمثل هذه المهمّة التي جرت العادة أن تُسند إلى شيوخ كبارٍ في السن، ومشهود لهم بالعلم، وبدا لهم أن حصوله على "شهادة التطويع" من "جامع الزيتونة" في تونس إنما كان بفضل مال والده.
ويشير المؤلّف إلى أن باديس شرع في نشر خواطره عام 1924 واستمرّ فيها إلى غاية العام 1927، معلّقاً أنها "مدّة طويلة نسبياً تعكس اهتمامه بالمظاهر المشينة التي يرى أنها تسيء للمجتمع الجزائري". ويضيف: "الأغرب من ذلك، أنه كان يدفع مقابلاً للجريدة حتى تُصدر خواطره".
في ختام العمل، يورد المؤلّف خطبةً تأبينيةً ألقاها رئيس "فيدرالية المسلمين الجزائريين المنتخبين"، محمد الصالح بن جلول، المعروف بتوجّهه الاندماجي، ونشرَها بُعيد وفاة ابن باديس في جريدته "الوفاق" عام 1940. ومن خلالها حاول المؤلّف إعادة تشكيل ملامح لم تكن معروفة عن هذه الشخصية، وعن علاقتها باللغة الفرنسية.
بدأ ابن جلّول تأبينيته بالقول: "إني أقدّم باللغة الفرنسية أمام هذا القبر احتراماتي السامية للشيخ عبد الحميد بن باديس... بهذه اللغة التي كان الشيخ يودّ لو أنه تعلّمها، وتكلّم بها"، قبل أن يضيف أن "آراءه الأصولية التقليدية مستقيمة الرأي، وإن لم يُظهرها صراحة في أوّل الأمر، جلبت له عدم الثقة، وخصوصاً الحسد، من طرف بعض علماء الدين في ذلك العهد".
ولأن الكتاب هو محصّلةٌ لمقالات ومحاضرات كُتبت وأُلقيت في أزمنة متفاوتة، فقد يجد القارئ نفسه، في بعض الأحيان، أمام معلومات كان قد قرأها من قبل. وهذا أحد عيوب الكتب المجمّعة بهذا الشكل، وكان يمكن، ببعض الجهد، تجاوز الأمر بمراجعةٍ شاملة له قبل دفعه إلى الناشر.