عبد الله العروي.. جلبة المفكر الصامت

20 فبراير 2015
عبد الله العروي في بورتريه لـ طلال الناير
+ الخط -

يمكن القول إن ما ميّز الدورة الحادية والعشرين من "المعرض الدولي للكتاب والنشر" في الدار البيضاء، هو عودة المفكر عبد الله العروي (1933) القوية إلى واجهة المشهد الفكري والسياسي من خلال ثلاثة كتب؛ كتابان من تأليفه، والثالث يمثل تأليفاً جماعياً لنخبة من المثقفين والباحثين، المغاربة والعرب، تناولوا بالدرس والتحليل مسار العروي الأدبي والفكري.

أول المؤلفات الثلاثة تعود كتابته إلى أربعة عقود خلت، ويتعلق بنص مسرحي عنونه العروي بـ "رجل الذكرى". وقد كُتب في الأصل بالفرنسية قبل تعريبه ونشره مرتين، الأولى ضمن العدد الأول من مجلة "أقلام" المغربية في عددها الأول (1964)، ثم أدرج بعد ذلك كملحق لعمله "الغربة" (1971) الذي يمثل أوّل نص سردي روائي من رباعية ضمّت: "الغربة"، "اليتيم"، "الفريق" و"أوراق"، قبل أن ينهي العروي هذا المشروع الأدبي بنص حمل عنوان "الآفة" (2006).

يرى المفكر المغربي بأن نشر هذا النص/النواة يشكل مفتاحاً لقراءة باقي أعماله الأدبية والفكرية. ويقول: "قرأت مؤخراً "رجل الذكرى" بعد مرور ما يقرب من أربعة عقود. استثقلت الأسلوب غير المتجانس، وزدت قناعة أن المرء لا يتعلم الكتابة إلا بالكتابة". مضيفاً: "لذلك قررت مراجعة النص مراجعةً تامّةً حتى لا ينفر من مطالعته قراء اليوم".

بيد أنّ ما ركّز عليه العروي في هذا النص المسرحي، والذي سيتحقق في الكتاب العمدة "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" (1967) هو تحديد مفهوم القطيعة مع الماضي. مفهوم القطيعة يحدّده العروي في تقديمه لـ"رجل الذكرى" كالتالي: "لم أقل بالقطيعة كحافظ للماضي بل كداعية للإحياء والتجديد. بعث حياة جديدة، مستأنفة، في نفس من كاد ترديد القديم أن يخنقه ويجمّده".

الكتاب الثاني ليس سوى الجزء الرابع من يوميات "خواطر الصباح"، ويتأطر زمنياً بين سنتي 1999 و2007، حاملاً كعنوان فرعي: "المغرب المستحبّ أو مغرب الأماني".

يوثق الجزء الجديد لبدايات حكم الملك محمد السادس، تلك الفترة التي تزامنت مع ما عرف في المغرب بحكومة التناوب التي قادها اليساري عبد الرحمن اليوسفي (1998-2000)، والتي سيجري الانقلاب عليها وعودة "التقليد" لممارسة هيمنته.

يقول العروي في هذه اليوميات: "دار الزمن وقرّر الحسن الثاني أن يسند الحكومة إلى ورثة يسار 1960. لا أدلَّ على ذلك من اختيار اليوسفي عوض بوسته. خطوة لا تفهم إلا إذا افترضنا أن الحسن كان واعياً خطورة مرضه. لكن الجناح المحافظ الممثل في الحكومة والإدارة والقصر، كان يستعد لإعادة تمثيل مسرحية 1960، وذلك بإقالة حكومة اليوسفي بدعوى أنها لم تف بوعودها، إذ لم تحل المشكلات الاقتصادية ولم تخفف من حدة التوترات الاجتماعية ولا أرضت الطلبة الغاضبين".

ولا يقتصر المعنى الوارد في هذه اليوميات على الشأن السياسي المتعلق بالمغرب، وإنما يتوسع ليطول أهم الأحداث السياسية التي عرفتها المرحلة. يقول مثلاً في يومياته عن أحداث 11 سبتمبر 2001: "ظهرت أميركا على حقيقتها، غير محمية من الأخطار الخارجية، يسيّرها أناس لا خبرة لهم بالسياسة العالمية، اهتمامهم مقصور على حوادث الداخل ووقعها على الرأي العام من خلال تعاليق الصحافة".

ويستخلص في يومية دوّنها بتاريخ 18 سبتمبر: "من الرابح؟ المؤسسة العسكرية وهيئة الاستخبارات. وافق الكونغرس على اعتمادات ضخمة، توقف العمل بعدة قوانين كانت تحد من صلاحيات أجهزة الأمن، ثم أسندت للرئيس صلاحيات جديدة لمحاربة أعداء أمريكا.. يستطيع في أي لحظة أن يقول: هذا الشخص، هذه الجماعة، هذه الدولة، هذا النظام يؤوي أو يعين الإرهاب ويشن عليه هجوماً دون الرجوع مجدداً إلى الكونغرس".

الكتاب الثالث عنوانه "النغمة المواكبة"، وهو مجموعة قراءات في أعمال عبد الله العروي، أشرف عليه الناقد محمد الداهي، ومن بين من شارك فيه: فيصل دراج، مسعود ظاهر، توفيق بن عامر، محمد برادة، أحمد اليابوري، كمال عبد اللطيف وغيرهم. ويتوزع الكتاب على ثلاثة أبواب هي: في التجربة التخييلية - الأفق الفلسفي والفكري - في النقدين المعرفي والثقافي.

من خلال تقسيم جسم الكتاب، يتضح أن الغاية منه هي محاولة الإحاطة الشمولية بالتراث الفكري لعبد الله العروي؛ وهو الذي يصعب تأطيره في توجّه مفرد، بما يمثله منجزه من محاولة مثقف الانفتاح على كافة الحقول.

إلا أن ما يمكن ملاحظته عن التقسيم المعتمد، هو غياب التطرق لبعد المؤرخ في شخصية العروي، رغم تأليفه لكتابين في التاريخ، هما "الأصول الثقافية والاجتماعية للحركة الوطنية" والكتاب المرجعي "مجمل تاريخ المغرب".

خصّ العروي هذا الكتاب بحوار تطرّق فيه لحصيلة اهتماماته وتوجهاته، كما يكشف فيه مواقفه الراهنة. يصرّح: "أميل اليوم إلى مطالعة كبار الفلاسفة ومنظري السياسة. ولهذا الاهتمام علاقة بالوضع الراهن، العربي والدولي، الذي يطرح علينا جميعاً سؤالاً محيّراً كان يبدو إلى عهد قريب متجاوزاً. أعني الديمقراطية التيوقراطية أو، بالتعبير الإسلامي، الدولة الشرعية العادلة".

وتطرق في حديثه إلى تعريف الحداثة التي هي "واقع تاريخي ذو مسارات مختلفة وأوجه عدة، والمفكر الحداثي ليس من يعرض النظريات ويفند الاعتراضات، وإنما من يتسلح بالمنهج النقدي، وينظر مجدّداً للتاريخ العربي وللعقيدة، ولمفهوم الديمقراطية والبحث العلمي". ويقول أيضاً: "من لا يغادر سماء الإيديولوجيا يُهزم بالإيديولوجيا، أصيلةً كانت أم مُولدةً".

وبخصوص تمثله لأحداث "الربيع العربي" يقول: "ما ظهر بوضوح أثناء الأحداث الأخيرة، هو أن الجانبين أساءا تقييم الواقع. الحكام تجاهلوا الوضع الداخلي، ظناً منهم أن سياسة مداهنة الأجنبي وإرضاء فئة قليلة من السكان تضمن الاستقرار. والمعارضة تعامت عن أهداف الدول الغربية".

بهذا الظهور المكثف، يبدو أن عبد الله العروي الذي طالما نُعت بـ"المثقف الصامت"، قد اختار، وبدقة، الفترة التي يمكنه التدخل فيها بالحديث وإبداء الرأي. ظهور استوقفنا فيه، أيضاً، موقفه الجريء من مسألة الدعوة إلى ترسيم اللغة الدارجة في التربية والتعليم.

المساهمون