عبد اللطيف اللعبي.. أميرنا الصغير

07 سبتمبر 2014
+ الخط -

هل عبد اللطيف اللّعبي هو "أميرنا الصغير" الأخير الذي سقط من كوكبه في الصحاري المغربية؟ على امتداد ما نشره من دواوين، ما برح يقول لنا إلى أي حد، نحن، ناس شواطئنا المختلفة، مسؤولون عن وردتنا. عن وردتنا الحب، عن وردتنا الرغبة، عن وردتنا الحرّية، عن وردتنا الكرامة، الموت، الأخوّة، الزمن، عن وردتنا عهداً للإنسان. لم تكن تنقصه الورود. يخرجها من ليالي السجن الباردة. من ليالي المنفى الممزِّقة ("فوق الظلمات / يرتفع قمر المنفى الحامض"). من ليالي الشاعر المضطربة. من ليالي الساهر الغضوبة. من ليالي العاشق الحمراء. من لياليه المتينة الرفيقة. "أميرٌ محموم بالعطاء. لكن مَن قال إنك تُغدق الراحة؟".

من كتاب إلى آخر، استطعنا أن نرى كم من مرة "أخذ" الكلام، كم لديه ما يقوله، كم هو كثيرٌ ما لديه ليقوله. تأكيد (بول) إيلوار، "الكل هو أن نقول كل شيء وتنقصني كلمات / وينقصني الوقت وتنقصني الجرأة"، كان مقتنعاً به أكثر من غيره، في الفضاء الضيّق لزنزانته في القنيطرة. حاولوا منعه من الكلام، اقتلاع الكلمة من فمه وكتبه. بعضهم حاول إخراسه، ولم يفلحوا. أنقذها، الكلمة. تقدّم لأخذها من بين القضبان. وأنقذ نفسه، بالمعنى الحقيقي والمجازي.

في صمتٍ يقارع الأبدية بطوله (ثماني سنوات ونصف في السجن ليست خمسة عشر يوماً في كلوب ميد)، كان لديه الوقت لتحديد خياراته وللتأكد من عدم الشك بها: سيكون شاعر القول المقتضب، والشفهية، والحوار، من نوع: "اقرّوا قليلاً بسعادتكم / اقرّوا بها / فقط بيننا"، أو "حين كنتُ أبرد / وأجوع / (عرفتُ ذلك سواء أرضاكم هذا أم لا)". لم يعد هناك وقت لإضاعته، لم تعد هناك مسافة مجمِّلة بينه وبين الآخرين: 1) "كل مقهور سيتعرّف إليّ كقريب له"؛ 2) "أن يرمي الكتب التي تعلّم فيها الكبرياء"؛ 3) "أن أتأكّد من أن ما كتبته ليس باطنيّاً ولا غريباً عمّا يمكن تلقّيه كذخيرة مشتركة من عذاباتنا وآلامنا". كان البرنامج واضحاً. والتزم به. باحترام مطلق.

قبل أي شيء، صفِّ حساباتك بنُبْلٍ ("ريشتك نظيفة / لا تغمسها / في دِبْق الضغينة"). لكن حول هذه النقطة، كما حول نقاط أخرى في الحياة، استعان عبد اللطيف اللعبي بضربة قلم رشيقة بقدر ما هي شرسة: البرثن والنصل من خصوصياته أيضاً. ثم ضَبَط خطوته، بشيءٍ من العلو وعزّة النفس وإن يمارس بسحرٍ مضحكٍ وكبير السخرية من الذات والتواضع لينتهي من عبور العالم الذي كان ينتظره، والشعر الذي كان قد توقّف عن انتظاره. تقدّمٌ لكن ليس من دون قليل من التصلّب، فهو ليس شاعراً رخو العود، وانحناءة التبجيل ليست من سماته. هشٌّ برقّته ورأفته، لكنه في العمق صعب المراس. وعلى أي حال، هكذا نحبّه، ممسِكاً باحكام بالرسن، عنيفاً، سريعاً مثل خيّالة صحاريه. "أيتها الكلمة / يا مريعةٌ... / أنت وحدك قادرة على إسراج مطيتي / واختيار شكيمة ورُكابين لها / وحثّها على سلوك دروبٍ مرعبة".

عبد اللطيف اللعبي أخٌ يرافقكم في شوارع اليومي. مثل (الشاعر جواكيم) دو بيلّاي [...]، يجعلنا بلا انقطاع نلمس حقائق مرّة خلال تعليقاته المتعاقبة، وهي طريقة أخرى لإدخال اللانهائي في الكتابة الشعرية. كتابته نوعٌ من اللقطة المباشرَة، في حالة تسلّط تحت اللغة. وهذه اللغة "المُسخِطة / والمرغوبة / كيف أقول لها / خذيني / كما لو أني أكلّمك؟".

هكذا عبد اللطيف اللعبي فيضٌ من الكلام الحيّ، من أقرب مسافة، كلام واضح، فقط الموت قادر على تجفيفه. يناوشنا بقصائد تمسّ بسرعة وبشكلٍ صائب، تبلغنا عشوائياً، مقتلَعة من خطابٍ داخلي ومتابَع ليلاً نهاراً مع نفسه، والآخرين، وأشباحه، وحبّه، وأعدائه، على دفعات، مثل كلام صديقٍ يسير إلى جانبكم في الشارع وسط ضجيج حركة السير المصِمّ. الحياة تسير، تدخّن، تفرقع، ويستغل اللعبي ذلك لإجراء ملاحظات لكم، مندداً، مفحماً، مشفقاً، ساخراً، هنا، إلى جانبكم، في خطاكم، حولها، أمامكم، خلفكم، في قلب كورس نشاز العالم والبشر. ومع ذلك، كلماته الرقيقة هي التي نسمعها، وليس الصخب الكبير الوقِح. إنه سرّه، أن يعرف أخْذ المكان الصحيح للسير، كي يسرّب لكم قصيدته الوجيزة، الدقيقة، التي تتفوّق على البلبلة المحيطة. "ضد الصمت والصخب، أبتكرُ الكلمة، حرّية تبتكر نفسها، وتبتكرني كل يوم". اقتباس لأوكتافيو باث نعرف لماذا برّزه اللعبي في مقدمته لانطولوجيا الشعر المغربي المعاصر التي وضعها. فهو يحصر أيضاً طبيعته ككاتب، أي شاعر تبتكره الحرّية. شاعر يشعر أن "الحرّاس في كل مكان"، فيطردهم بكلماته. لا أحد سيمنعه من الكتابة كما يريد، بدقّة، وتجريد، وفعاليّة.

إنها قصة قديمة جداً. ومثل جميع الشعراء الذين تليق بهم هذه التسمية، يعرفها اللعبي جيداً: يسير الشعر إلى الأمام، وعليه أن يتقدّم بين بصيرة متزهّدة، ووضوحها الشفّاف، وبين الحنين الراسخ والمؤثّر للغة الملائكة. عند خروجه من تجاربه كإنسان، لحظة في حياته على قمة تقسيم المياه، اختار اللعبي منحدَر كتابته. لن يطرح "بقلق سؤال الحداثة" المتأتّية بعد مالارميه. فهو لا يكترث لذلك. سيقف على مسافة من "المغامرات الجمالية". "الحاجة الشديدة إلى فكّ رقبة ما لا يوصف" تحوّلت لديه إلى عزمٍ هادئ ومنهجي على امتداد دواوينه. سيكون شعره سريعاً أكثر منه منبسطاً، نحيلاً أكثر منه وفيراً، وسيميل إلى الهجوم أكثر منه إلى التناغم. وما سيفقده من سحر، سيكسبه دقةً في التصويب.

مجازفة محسوبة، أخوية، كي لا يكون غائباً عن العالم وما يحصل فيه. لهذا، سيبتعد عن اللغة المفخّمة، عن الموسيقى القارضة، عن الغنى اللغوي الزاخر. في كل شيء، سيكتفي بالقليل: "أشرب قليلاً من الماء / وأسير / بعيداً عن القافلة". لن يكون شهيداً إضافياً للكامل، باحثاً آخر عن العنصر النقي الذي يولّد الفعل الشعري، فناناً تائهاً لنظام النقاوة الشعري. "فلأنقّي نفسي / من نقاوتي!"، إنها إحدى أغلى أمنياته. لديه مشاغل أخرى غير مشاغل اللغة الأسمى: "الذئاب"، "القتلة"، "الحرّاس"، الذين يحومون في الليل وعلى طرف قصائده. سيقف على أبعد مسافة من تُحَف التفاهة الصائتة، وإن أمكن، من جهة "الجروح المقرَّبة للشمس".

على سيرة مالارميه، تحديداً، الذي تقودنا إليه هذه "التحفة"، يحلو لي أن أتذكّر نصّاً لـ(بول) فاليري، "كنتُ أقول أحياناً لستيفان مالارميه..."، قرأته في عدد قديم من "المجلة الفرنسية الجديدة" (أيار 1932)، عثرتُ عليه بالصدفة لدى بائع كتب على ضفة السين. لماذا هذا النص، ونحن نتكلّم عن شعر اللعبي؟ لأن فاليري، ببضع صفحات تبدو لي أساسية، يطرح المسألة المركزية للكتابة، للقول الشعري، أي ذلك الصراع الدائم بين "نقل الوقائع" و"توليد انفعال"، بين الإشارات والمفاعيل، بين الوضوح والسحر. كل شاعر حقيقي يصطدم بذلك خلال ممارسة الكتابة، واللعبي بدون شك، أكثر من غيره، اختبر هذا الأمر داخل الصمت الطويل لزنزانته في القنيطرة، قبل ساعة الخيار الذي يتجلى في كل شعره، قبل أن يقرر إلى أي جهة سيجعل الميزان يميل، أو إلى أي جهة سيحرّك الزلّاقة (souris\mouse).

[...] بإيجاز، حين شقلب قرنٌ في غاية القسوة جميع الآفاق، بما في ذلك الأفق الثقافي؛ باشرت ضرورات الفهم والقول بزعزعة هذه اللعبة. فتحرّكت الزلّاقة، وتغيّرت النسبة، وانعكس الميل أكثر فأكثر، ضمن وداعٍ أكثر فأكثر ممزّقاً لمُتَع التفخيم الغامض القديمة، وهو ما لم يفهمه بعد الكثير من ورثة مالارميه، اليوم، المكتفين بذاتهم، والذين بقي اللعبي بحزمٍ بعيداً عنهم.

من أبولينر إلى ماياكوفسكي (انظروا كيف ترجع ذكرى هذا الشاعر الروسي في قصائد اللعبي، كما لو أنه كتب لشاعرنا هذا المقطع: "للدواوين ينبت شعراء بشَعرٍ أجعد. / لا شيء نتعلّمه من هذه الكلاب المشعرنة الغنائية. / أنا / تعلّمتُ أن أحبّ / في السجن...")، إلى "خرائط طريق" لبليز ساندرار، و"قصائد منفى" لبرتولد بريخت (التي تذكّرنا بها قصائد اللعبي المكتوبة بالنبرة ذاتها)، مروراً بأراغون ("اكتُبْ كما تتكلم أمّك"، وإن لم يكتب أراغون أبداً كما كانت أمّه تتكلم...)، ووصولاً إلى شعراء الجيل الأول من مجلة "Action poétique"، وشعراء "شعر بمستوى الإنسان" في الستينات، وأولئك الذين تقرّبوا من غي شامبيلان المنسي، نشاهد تاريخياً استعادة وظيفة الشعر الأولى، ونوعاً من محاكمة، أو وضع وظيفة الشعر الآخرى في مكانها، وبالتالي التقليل من شأنها.

وفي هذه الاستعادة للكلمة، في هذه المعركة الأساسية في قلب الشعر الفرنسي، تقدّم الشاعر المغربي الفرنسي للانخراط بقوة، وتقديم مساعدته، من خلال إسهامٍ حاذق وحضورٍ يتعذّر نكرانه. إذاً، بدورنا نرغب في القول له، لشكره، ما يسرّ به لنا في قصيدته الرائعة "احتضان العالم"، أي رغبته في القول للفتاة الصغيرة الشقراء التي كانت تجلب له الخبز كل صباح إلى منزله في المنفى، في ريف بواتيي: "معركة بواتيي لم تحدث".

وهكذا يكون الشعراء كباراً!


* شاعر وروائي فرنسي، والكلمة مقدمة الجزء الثاني من أعمال عبد اللطيف اللعبي الشعرية

ترجمة أنطوان جوكي

المساهمون