من بين جميع فروع الفلسفة، تبدو الإبستيمولوجيا (فلسفة العلوم) الغصن الأقل أوراقاً في البلاد العربية، فسواء على مستوى التأليف أو على صعيد الترجمة، تبدو الحصيلة هزيلة.
تُعدّ تجربة المفكر التونسي عبد القادر بشته (1945)، من تجارب التراكم النادرة على مستوى التأليف ضمن هذا الاختصاص، حيث وضع إلى اليوم 24 مؤلفاً موزّعة بالتساوي بين اللغتين العربية والفرنسية.
في لقائه مع "العربي الجديد"، يحدّثنا بشته عن أسباب عدم انغراس مجال اختصاصه في البيئة العربية. بداية، يلاحظ أن "العمل في هذا الاختصاص ضعيف، وهو غالباً ما يعيد ما قيل أو يتحدّث في مواضيعه بغموض". يضيف "إن الهدف المعلن للإبستيمولوجيا هو التفكير في العلم بطريقة فلسفية، ومن وراء ذلك محاولة النفاذ إلى روح العملية العلمية".
عن مؤهلات الإبستيمولوجي، يقول بشته، "بما أنه محاصر بين قوّتين هائلتين؛ الفلسفة والعلم، فعليه أن يكون متمكّناً من تاريخ الفلسفة، كونها سلاحه الذي يسمح له بفهم القطب الثاني الذي يجذبه وهو العلم الذي يحتاج أن يكون مطلعاً عليه".
يشير أيضاً إلى وجود "حدود ينبغي على الإبستيمولوجي مراعاتها، إذ لا ينبغي أن ينقلب إلى عالم، أي أن عليه أن يحافظ على مسافة بينه وبين العلم، لأن العلم يسقط عادة في الآلية، ما يخفي على المنشغل به الأسس والخفايا، وهي محور سؤال الإبستيمولوجي".
على خلاف بقية الميادين الفلسفية، تعاني الإبستيمولوجيا في الوقت نفسه من نقص في التأليف بالعربية وفي الترجمة. على مستوى شخصيّ، يفضّل بشته التأليف، أي فهم القضايا الإبستيمولوجية والاشتغال عليها في أعماله.
على مستوى عام، يرى بشته أن عدم الاهتمام بالإبستيمولوجيا عربياً عائد إلى طغيان التخصّص في الفلسفة العامة. من جهة أخرى، يرى أن ثمة انغماساً في ما هو سهل ومتداول وميل إلى النقل وتكديس المعلومات وعدم الذهاب إلى المشاكل وتطويقها عن قرب بجهد فكري خاص.
أمام هذه القراءة، سألناه: هل أن التأخر العربي في ميدان الإبستيمولوجيا راجع إلى نقص علمي أم فلسفي؟ يعتبر بشته أن النقص بالأساس أخلاقي؛ يضرب مثالاً على ذلك عدم الاطلاع على النصوص العلمية ثم الحديث في شؤون العلم.
كما يرى أن العالم العربي يسوده الكسل والاستسهال والابتعاد عن المشاكل، إضافة إلى غياب ذلك التفاعل بين المشتغلين في العلم والمشتغلين في الفلسفة، معتبراً أن الوضع القائم هو حوار طرشان، في حين أن كل طرف يمكن أن يقدّم للآخر فهماً للجانب الأضعف لديه.
يؤكد بشته أن تاريخ العلم يثبت أن فرص النقلات العلمية، كالتي حققها نيوتن أو أينشتاين، لا تتأتى إلا من خلال الجزء الفكري من العلم، وليس من الجانب التقني فيه. يقول "نيوتن كان فيلسوفاً بمعنى ما، كان يعرف أفلاطون وديكارت بشكل معمّق. وأينشتاين كان أكثر العلماء المعاصرين تعمّقاً في الفلسفة، وهو ما يفسّر تفوّقه على علماء عصره رغم أن كثيرين منهم، مثل لورنتز أو بوانكاريه، كانوا قريبين من الوصول إلى نظرية النسبية".
يستفيض في شرح ذلك "أعتقد أن الإضافة التي أتى بها أينشتاين كي يقطع الخطوة الجديدة هي الفكر الفلسفي، لأن هذا الفكر تعوّد على تخطّي المتناقضات، وكانت قضية ذلك العصر هي كيفية توحيد مجاليْ الميكانيكا والكهراطيسية اللذين كانا علمين غير متجانسين حتى أتت النسبية فوفّقت بينهما".
يبدو واضحاً أن الإبستيمولوجيا، بصفة عامة، مركّزة على العلوم الصحيحة، رغم القفزات الهائلة التي حققتها العلوم الإنسانية. يفسّر بشته هذه الظاهرة بأمرين: الأول أن العلوم الإنسانية والاجتماعية لا تزال محل نقاش حول علميّتها، بما أنها لم تطوّر مناهج تلبّي التعريف الصارم للعلم باعتباره قياساً. ثانياً، يعتبر أن هذا الاهتمام بالعلوم الصحيحة هو "امتداد لانطلاقة" باعتبار أن الفلسفة سبقت العلوم الإنسانية، بالتالي وجدت أمامها في البداية العلوم الصحيحة فحسب.
الاهتمام بالعلوم الصحيحة كـ"امتداد لانطلاقة"، يفسّر أيضاً مسار الإبستيمولوجي التونسي، فقد بدأ شغفه المعرفي مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، خصوصاً عمله "نقد العقل المحض" والذي أوصله إلى نيوتن في سنوات دراسته الفلسفية في باريس في سبعينيات القرن الماضي، ومن هنا بدأ اهتمامه بالعلوم الحديثة.
يشير بشته أيضاً إلى أن أحد أسباب اهتمامه بالعلم هو قضية عربية كانت مطروحة في الأوساط الفكرية الفرنسية تتعلق بدور الحضارة العربية الإسلامية في تاريخ العلم، وكان الرأي السائد هو أن هذه الحضارة عجزت عن القيام بثورة علمية.
يقول بشته "أردت التأكد من هذا الموقف بالعودة إلى التاريخ العلمي العربي ونصوصه، من خلال نماذج البيروني وابن رشد والكندي". يضيف "وصلت إلى أن العرب لم يقوموا بثورة علمية رغم المجهودات التي قاموا بها وحفظهم للتراث الأرسطي وتطويرهم لمناهجه، لكني لم أقف هنا. تساءلت كيف فكّر العرب علمياً؟ لأكتشف أن العرب لم يقوموا بثورة لأنه لم يكن بإمكانهم القيام بثورة، فسنّة تاريخ العلوم تقول إنه من غير الممكن القيام بثورتين متتابعتين".
يواصل "ما حصل تاريخياً أن اليونانيين جاؤوا بثورة علمية، لم يحصل استيعاب مضمونها إلا مع الحضارة العربية الإسلامية. فالثورة العلمية، كما يقول توماس كون، كثيراً ما يكون لها أعداء من المحافظين فتظل تسير ببطء. ولم تستطع أي حضارة فرض مضمون الثورة العلمية التي جاء بها اليونانيون حتى صعود الحضارة العربية الإسلامية، ومن ثم استيعاب منجزاتها وتطويرها، وبذلك مهّدوا الطريق أمام غاليلي ونيوتن والثورات العلمية اللاحقة".
يحيلنا حديث محاورنا إلى مسألة قلة الاشتغال الإبستيمولوجي في العالم العربي المعاصر على التراث العلمي العربي الإسلامي. يرى بشته أن "غالبية هذا التناول عملٌ كميّ، وهو مجرّد مرور خطّي على التاريخ العلمي العربي دون الانغماس في النصوص العلمية، وهذا ما حاولت إنجازه في كتابي "الفكر العلمي والحضارة العربية الإسلامية" الذي ألّفته بالفرنسية".
إضافة إلى هذا العمل، فإننا حين نستعرض أعمال الإبستيمولوجي التونسي، سنجد وكأننا حيال عملية مسح لتاريخ العلم بمقاربة إبستيمولوجية. نذكر من أعماله: "الرياضيات والفيزياء عند أفلاطون وكانط" و"النسبية بين العلم والفلسفة" و"دالمبير: عالم الطبيعة والفكر الوضعي" و"الإبستيمولوجيا: مثال الفلسفة النيوتونية" و"فلسفة التكنولوجيا النووية".
يقول بشته "لم يكن هذا نتيجة تخطيط مسبّق، لقد جاء بشكل طبيعي، حيث إن كل اهتمام يدفعك إلى اهتمام جديد، وصولاً إلى آخر نظريات الإبستيمولوجيا، وهي النمذجة، والتي ألّفت حولها آخر أعمالي "النمذجة العلمية وأسسها"، وهي مرحلة أود أن ينشغل بها العقل العربي، بما أن الفكر العالمي يبدو أنه يتخلّص من الديكارتية، القائمة على التحليل، وينزع نحو بديل هو النمذجة".
اقرأ أيضاً: غاليلي: انتصارات في معارك صامتة