"عبري يذهبون إلى الألم الأبدي" (دانتي، الكوميديا الإلهية). لعل البعد الفاصل بين تمثيل التراجيديا تقريرياً وبين إملائها للمعنى في التعبير البصري هو المنطقة الخطرة التي تحدّد صدق الذات عند الفنان. فالتعبير عن التراجيديا غالباً ما يثير مخاوف حقيقية لدى الفنان من أن يكون مجرّد ناقلٍ تقريريٍّ لا يضيف إلى المشهد التراجيدي الإنساني سوى صورة أخرى تُحفظ في أرشيف المأساة الهائل المتراكم على مدار عقود في مخازن الذاكرة البشرية، ويؤجج عامل الخطورة ذاك تخمة إعلامية بصرية "عوّدت" عين الرائي على استقبال صور الدمار والقتل والعذاب في أرجاء الوطن العربي باعتيادية باردة.
إن التعبير التقريري عن المأساة وسم أعمال مجموعة من الفنانين العرب المعاصرين، بالتأويل السطحي والجائر والربط الممنهج لذلك الإبداع بالشعار السياسي دون الالتفات إلى ما يدور في عمق كيان الفنان نفسه كإنسان قابع في قلب هذه المأساة.
لا شك أن التمثيل الواقعي لأية مأساة مهم في حال توافر السياق المناسب لهذا. والسياق يحتم على الفنان أن يكون ناقلاً مخلصاً لصورها. عكس ما يحدث الآن على الساحة الفنية العربية المعاصرة من تكرار ونسخ للحدث الإعلامي الناقل لتراجيديا العذاب والحرية.
من هنا تأتي خصوصية أعمال عبد القادري في هذا المعرض وفي مجمل نتاجه الفني، حيث أنه عندما خاض في المنطقة الخطرة إياها؛ كان مدركاً لوضع المشهد العربي المأساوي وسيطرة الفن الإعلامي وسطوته على فضاء التعبير الفني العربي المعاصر، لذلك نأى بإبداعه عن فداحة استهلاك الصورة وعبّر عن المصاب بمفردات بصرية بعيدة عما يعتاده المشاهد في الإعلام.
لقد استهل أولى خطواته إلى البحر الأبيض المتوسط ذلك الذي تربطه به حالة عشق فطري منذ صغره حيث ترعرع في مدينة البحر بيروت، البحر نفسه الذي يبتلع يومياً العابرين الهاربين من آلة القتل الى مجهول ربما في آخره حياة. فكان سطح اللوحة الشاسع مقاربة لذلك الأزرق الساحر الخاص به، جاعلاً منه مساحة تتأهب لاستقبال العابرين.
وعلى مدار شهور طويلة أخذ هذا البحر (جدارية من 540 ×270 سم) يقتحم مدركات القادري الحسية، فيما هو يقتحم اللوحة مشكلاً صخبه الحسي على مسطحها ومطلقاً العنان لحالة الغضب والحنق والحزن التي يعيشها مع تزايد وتيرة الأعداد الكبيرة للهاربين وتناقص أعدادهم عند الوصول لبر الأمان.
دون إدراك منه وجد نفسه في حالة تماثل وتعايش كاملة مع عمله الفني كأنه واحد من أولئك العابرين فكانت تلك الحوارية الصادقة بينه وبين عمله وحسه هي التي تملي عليه تفاصيل العمل وشيئا فشيئاً أخذ الأزرق بالانحسار تحت هول الكارثة وأخذت تشكيلات المأساة وأصوات المستنجدين وبكاء الأطفال تطفو على صفحة العمل بصورة فوضوية جعلت منه وبمشهدية شبه تجريدية ذات لون قاتم.
ذلك البحر جحيم يقف المشاهد للعمل على بابه كأول وقوف لدانتي على بوابة الجحيم في كوميديته الإلهية، وليقف القادري في عمله هذا عند تحقيق صورة الكارثة بالطريقة الصاخبة الغاضبة تلك كالشاهد على عصر الفقد والضياع الذي يعيشه الإنسان العربي، وتعج وسائل الإعلام بصوره وقصصه المرعبة. ولكن القادري لم يقف فقط عند حد تشكيل المأساة بل هو يتهكم على وسيلة الإعلام المنتجة لكل ما هو قابل للاستهلاك البصري والفكري لدى المشاهد دون وضع أي اعتبار للبعد الإنساني.
يعبر المهجّرون بالآلاف إلى المجهول ويبتلع البحر منهم أعداداً هائلة دون تمييز، ويصل الناجون كحطام قوارب الهروب التي يعجّ بها البحر كما في جدارية عبد القادري.
في أعمال أخرى، يرتقي الفنان بالضحايا صانعاً من وجوههم أيقونات ملأها الخوف والعذاب. وجوه متشظية محترقة مشوهة التفاصيل (نفّذها الفنان على محارم ورقية بما لها من دلالات الهشاشة) كما البلاد والمدن والأحياء التي عاثت فيها يد الإجرام حرقاً وتدميراً، تتطلع نحو المجهول وهي واقفة على حافة البحر مرعوبة من مغامرة الهروب التي لا مفرّ منها مع بصيص أمل ضئيل ببلوغ الضفة الأخرى.
ما توخّى القادري طرحه في أعمال هذا المعرض هو مستوى العلاقة التي تربط الفنان بعمله من الناحية الفكرية والفلسفية، تلك العلاقة البنائية المرهقة التي يتوجب على المبدع أن يوازن تفاصيلها بحيث يصل إلى نقطة المصالحة بين ذاته وعمله والموضوع الذي يمثّل في العمل الفني.
ومما لا يمكن نكرانه أن القادري ما زال يوازن بين كل هذا، ويستطيع أن يسبر الفكرة من أضيق منافذها لكي يلمس جميع تفاصيلها المادية وليحقق بها إبداعه المستفز للمشاعر المختلفة.
هناك يقف القادري على بوابة الجحيم الأزرق حيث ما زال الواقفون يتسمرون مرعوبين ومتأهبين للعبور نحو هلاك أكثر سكوناً ودفئاً من أرض رمت بهم إلى قعر الموت.
---
من أبو غريب إلى البحر
يجمع عبد القادري (1984) بين مسارات مختلفة، فالفنان الشاب المتخرّج من كلية الفنون في الجامعة اللبنانية والذي قدّم أول معارضه بعنوان "أبو غريب" (2006) مستلهماً أحداث التعذيب في المعتقل الأميركي؛ سرعان ما سيتجه إلى الصحافة الثقافية ومن ثم عالم الإدارة الفنية حيث أسس "غاليري فاء" وأدار "مؤسسة كاب للفن المعاصر" في الكويت، قبل أن يتفرّغ لعمله كفنان. في رصيد القادري ستة معارض فردية حتى اليوم.
اقرأ أيضاً: سرديات هاني زعرب: أزمنة "حب بجودة منخفضة"