عبد العزيز الثعالبي.. بحثاً عن التحرّر

03 أكتوبر 2019
عبد العزيز الثعالبي في بورتريه لأنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

سيرةٌ لافتةٌ جمع فيها صاحبُها بين الهمّ الفكري والعمل السياسي، وواءم خلالَها بين الهواجس القومية والدينية، مع الالتزام بقضية الوطن التونسي الرازح تحتَ نير الاستعمار؛ فقد صهرَ المصلح التونسي عبد العزيز الثعالبي (1876 - 1944)، الذي مرّت ذكرى رحيله قبل يومَين، في شخصيته روافدَ شديدة التنوع، مازجاً فيها الفكر الإصلاحي العقلاني الذي شيده أستاذاهُ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، بالمبادئ التحرريّة للثورة الفرنسية وفلسفات الأنوار، فضلاً عن تأثيراتٍ من القومية التركية. اغترفَ الرجل من هذه المصادر الثرَّة، على تضارب مرجعياتها، وطابَقَ بينها، يُساعدُه في ذلك ترحالُه الذي شمل العراق وتركيا ومصر وسورية وفرنسا وغيرها من البلدان؛ حيث تجاوزت رحلاتُهُ من الزمن عشرين سنةً متقطّعة.

ومن الكتب التي شكّلت بدايةً لمسيرته التنويرية وعلامة فارقة فيها "روحُ التحرر في القرآن"، الذي صدر سنة 1905. ولهذا الكتاب قصةٌ غريبة تحمل جذورَ أول قضية "ازدراء أديان" في الفكر العربي الإسلامي الحديث؛ فقد لَفَّق جماعةٌ من أساتذة جامع الزيتونة ضدَّهُ قضيةً يتهمونه فيها بالتطاول على الأولياء والاستخفاف بكراماتهم، مما يُعدُّ عندهم مساساً بالعقيدة واستنقاصاً من رموزٍ مُقدّسة في مجتمعٍ تقليدي يُجلّ الصالحين.

فكان أن رُفعت ضدّه دعوى، لعلها الأولى ضد مسلمٍ، وحَكمت عليه المَحكمةُ بشهريْن نافذيْن سجناً، هذا فضلاً عما تعرَّض له من تجريحٍ العامة، إذ كان "الرَّعاعُ يَتَرصدون للثعالبي في ذهابه إلى المَحكمة ورجوعه يهاجمونه بالسبِّ والأذى ثمّ حُكم عليه بالسجن"، والوصف للفاضل ابن عاشور في كتابه "الحركة الأدبية والفكرية في تونس" (1987).

وبعد خروجه من السجن، قرَّر الردَّ على السلطات الاستعمارية، صاحبة الكلمة في سجنه وعلى المشايخ التقليديين الذين يَرفضون التطور ويحاربونه ويعتبرونه مرادفاً للتفصّي من تعاليم الدين، بل وحرباً عليه وعلى ما لهم من الامتيازات المالية والسلطوية.

فكان جوابُه أنْ صاغَ كتابَ: "روح التحرر في القرآن"، باللغة العربية، ولكنه نَشَرَه بالفرنسية في باريس وصدر سنة 1905 في دار إرنست لورو، والترجمة لصديقيْه الهادي السباعي، المترجم بالمحكمة الابتدائية بتونس، والمحامي سيزار بن عطار الذي دافَعَ عنه أثناء مُحاكمته.

وللأسف الشديد، ضاع الأصل العربي لهذا الكتاب، لولا أن قام الباحث التونسي حمّادي الساحلي بتعريبه من جديد، بعد ثمانين سنة من ظهوره، وأعاد إصداره سنة 1984 في صيغة أقرب إلى أسلوبه الأصلي.

في هذا الأثر المعلمي، سلسلةٌ من الفصول أبرز من خلالها المفكر التونسي سماحةَ الإسلام وتقاربَ قيمه مَع القيم الليبرالية الفرنسيّة وحتّى الكونية مثل: الحرية والتضامن والأخوة والتسامح وأوليّة العقل على حساب النقل. ولذلك تصدّى الثعالبي للقضايا الحساسة وعرضَ عنها آراءَ شديدة الجَراءة، ويمكن حصرها في محاور ثلاثة، فمن ذلك أنه فنَّد أولاً شرعية الحجاب واعتبَره مجرّدَ تقاليد اجتماعيّة نَتَجت عن التأويل الذكوري للقرآن ولآياته. وحاول التدليل على أنّ آيات الحجاب لم تكن، في الأصل، تعني سوى نساء النبي. ونادى، بناءً على هذه الفرضية، بسفور المرأة وإخراجها من حُجُب البيوت إلى فُسحَة الحياة العامة لأنّ الحجاب كان يستتبع آنذاك منعَ المرأة من الخروج تماماً وعدم اختلاطها بالعالم الخارجي، عالَم الرجال.

ومن جهة ثانية، هاجم المصلحُ التونسي الطرق الصوفية ومشائخها، متّهماً إياهم بالدجل والتحايل على ضِعاف العقول عبر ادّعاء الكرامات وخوارق العادات وكشف الغَيب، ونادى بإلغاء كل الوسائط بين الإنسان وربّه، وبإغلاق الزوايا التي كانت، في رأيه، تنشر الأفكار المتحجّرة المنافية للتطوّر العلمي وتبث عقائد الشرك والخرافات، ضمن رؤية توحيديّة حاسمة.

وأخيراً أشاد صاحب "تونس الشهيدة" بتسامح الإسلام مع غير المؤمنين به، وبحرصه على استخدام العقل واعتماد مبادئ الحضارة العلمية الحديثة، التي كانت وقتها في أوج صُعودها مع الفلسفة الوضعيّة في فرنسا وتابعيها من المفكرين العرب، مثل أنطون فرح وشبلي شميل.

كما عمل هذا المفكر على إجراء قراءة اجتماعية للقرآن حيث جعل آياته تنطق بقيم التضامن والتعايش بين المؤمنين وغيرهم، ورأى فيه دعوة إلى كسر الأبنية التقليدية التي طالما قيّدت الفرد والجماعة وحَصَرت السلطة في دائرة مغلقة مستبدة. وكان منهجُه في ذلك تفنيد القاعدة الأصولية القائلة إنَّ "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، فرأى أنَّ المفسرين قد تعسفوا في نقل الآيات من الخاص إلى العام، دون مراعاة القرائن الدلالية والمقامية القاطعة، تساهلاً منهم، ربما لتشريع دعوتهم إلى الحقد والحروب وقمع المرأة ودفن العقل.

وهكذا، يُعد كتاب "روح التحرر في القرآن" من أجرأ الخطابات في نقد التراث التفسيري والحَملة على تهافت التأويلات البشرية وارتباطها بأبنية السلطة السياسية واللاهوتية والذكورية. وكأنّ الثعالبي عاد إلى صميم النص القرآني لا لانتقاده في حد ذاته، فقد كانَ هذا الانتقاد خارجَ دائرة المفكر فيه، كما يقول أركون، بل إلى الدائرة التأويليّة باعتبارها قولاً إنسانياً على القول الرباني، فكان له فيه متسعٌ لإظهار روح التحرر، ولعلّ ما يسود اليوم في كتب محمد الطالبي ويوسف صدِّيق وشحرور صدًى لهذه الأفكار.

ولكن، رَغم الطابع التحرري المفرط لهذا الخطاب، فلا يشك أحدٌ في وطنية الثعالبي ولا يفترض أحدٌ تبعيته للغرب، وإنما هو ضربٌ من الانبهار العام الذي عاشه جلُّ مُفكري النهضة، كما أثبت ذلك مؤرخها ألبرت حوراني، حيالَ النموذج التحديثي وما يقتضيه من مبادئ ثورية تقدمية، يدعوهُ إليها أيضاً وضعُ تونس الداخلي المأزوم، الذي يتجلى في معاناة شعبها من سلطات الاستعمار والاستبداد ومن تهميش أي دور للعقل. كانت جرأة الثعالبي بقدر تخلّف واقع الإيالة التونسية الفقيرة "حسّاً ومعنى".

ولذلك، لم تَقتصر مسيرتُه على التنظير المجرد، بل سعى إلى أن يُترجم أفكاره هذه إلى حركة اجتماعية من خلال تأسيس أول حزب سياسي، "الحزب الدستوري التونسي"، وجعله منبراً ينهض بسائر الطبقات الشعبيّة ووسيلة للتأثير في واقع الناس وحملهم على محاربة الاستعمار وتطوير الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية، مع الاستناد إلى التراث الإسلامي بعد قراءته قراءةً تقدميّة. فما كان من فرنسا إلا أن سَجنته ونَفتْه. ثم ما لبث أن انقلب عليه مريدُه الحبيب بورقيبة وانشقّ عن حزبه وهجره مريدوه...

أنهى الثعالبي حياتَه في التأمّل والتدريس "فكان يجلس في بيته كل يوم جمعة بعد العصر لإلقاء دروسٍ على بَعض طلبة جامع الزيتونة، حول مقاصد الشريعة أو التاريخ أو مشاهداته في البلدان الإسلامية الشرقية". ومن تراثه بقيَ روحُ التحرر، ولعلّه بعض ما حرَّك ربيعَ تونس بعد قرنٍ من انبجاسه.

المساهمون