06 نوفمبر 2024
عبث الاستشراف عند العرب
غدا الاستشراف اليوم أحد أهم أدوات فهم المستقبل والاستعداد للتعامل مع متغيراته واحتمالاته. وقد اهتم الإنسان به منذ أقدم العصور، باعتباره استراتيجية بقاء في مواجهة قوى الطبيعة والآخر عبر محاولة التنبؤ بتقلباتها وسلوكها (تناوله ابن خلدون (1332-1406م) في مقدمته واحداً من أنماط التغير الاجتماعي والسياسي، يمكن التنبؤ بحدوثه). أما الاستشراف، علماً أو من حقول المعرفة له نظرياته ومناهجه وأدواته، فقد تأخر ظهوره حتى منتصف الستينات، وأخذ بعدها يتحول من مجرد تقنيات للتنبؤ بالمستقبل إلى محاولة تحديده وتعديله، وربما تغييره إذا أمكن، عبر التحكم ببعض المدخلات، للحصول على مخرجاتٍ معينة.
لم يتأخر العرب كثيراً في دخول الحقل، إذ بدأ اهتمامهم به، في ثمانينيات القرن الماضي، وأنشأت بعض الدول العربية، منذ مطلع الألفية، لجاناً ومشاريع لدراسة المستقبل واستشرافه، مثل مصر 2020 والأردن 2020 وسورية 2025. وشارك في وضع هذه المشاريع جيش من الباحثين والخبراء العرب في مختلف صنوف المعرفة، درسوا واقع بلدانهم من النواحي الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية والتعليمية، وخرجوا باستنتاجات وتصورات وتوصيات عن المستقبل.
فماذا كان مصير هذه المشروعات والدراسات؟ الجواب هو الإهمال. ففي سورية مثلاً كانت كل المعطيات تفيد بتوجه البلاد نحو السيناريو الكارثي الذي تحدّث عنه مشروع 2025، في ضوء تقلص حجم الموارد، وتنامي عدد السكان وسوء توزيع الدخل وانغلاق المجال السياسي وسياسات الإقصاء والتهميش وانعدم التوازن في التنمية بين المدن والأرياف، وبين محور العمران حلب-دمشق والمناطق الشرقية من البلاد، وعدم القدرة على استغلال النافذة الديموغرافية الناشئة عن تنامي شريحةٍ الشباب في المجتمع. وازداد الوضع سوءاً بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد سنوات متلاحقة، وأخذت نتائجه تظهر، اعتباراً من عام 2008 على شكل هجرةٍ مليونيةٍ من منطقة الجزيرة باتجاه أطراف المدن الكبرى.
وبدل الذهاب باتجاه سياساتٍ تؤدي إلى عدالة أكبر في توزيع الثروة، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، تم تبني سياساتٍ نيوليبراليةٍ، أدت إلى تركيز مزيدٍ من الثروة والسلطة في يد القلة (تأسست مثلاً شركتا شام القابضة وسورية القابضة، وتملكان مجتمعتين أكثر من 60% من الناتج القومي لسورية)، ما أدى إلى حالة من الغليان المجتمعي، ازدادت سوءاً نتيجة تدافع الناس وتزاحمهم على الجزء اليسير من الموارد التي تركتها القلة المالكة للسلطة والثروة. ولم يكن الأمر يحتاج أكثر من شرارةٍ، لينفجر الوضع في سياق إقليمي ودولي مؤات.
وضع الاستشراف في بقية الدول العربية لم يكن شديد الاختلاف، حيث استخدمه صانع القرار أداةً لمزيد من الضبط والسيطرة، بدلاً من وضع استراتيجياتٍ لمواجهة التحديات ومحاولة التأثير في المدخلات، لتجنب السيناريو الكارثي في الحد الأدنى.
عادت، أخيراً، بعض مراكز البحث إلى الحديث عن مستقبل المنطقة العربية في ضوء الصراعات والأزمات التي تعيشها، وأيضاً في ظل تحولاتٍ مناخيةٍ أوصلت درجات الحرارة إلى مستويات غير مسبوقة هذا الصيف (بلغت 53 درجة مئوية في جنوب العراق في يوليو/ تموز الماضي)، وهو أمرٌ، بحسب الأمم المتحدة وعلماء المناخ، بات يهدّد حياة الإنسان، مع ندرة المياه في المنطقة.
ويرسم أكثر هذه الدراسات سيناريوهات كارثية للمنطقة العربية، آخذاً في الاعتبار اشتداد التنافس على الموارد المحدودة في ظل الزيادة الكبيرة في عدد سكان المشرق العربي الكبير (ارتفع عدد سكان سورية، والعراق، ومصر، وشبه الجزيرة العربية من 60 مليون عام 1950 إلى 315 مليون اليوم، ويتوقع وصوله إلى 470 مليون عام 2050). ويمثل هذا التنافس أحد أبرز وجوه الصراع الذي يأخذ اليوم أشكالاً مختلفة في المنطقة (طائفي – جيوسياسي...إلخ). ومع تنامي احتمال تفكّك الدولة المشرقية العربية، وقيام فواعل محلية (مليشيات وأمراء حرب ..إلخ) بالسطو على أدوارها الاقتصادية والأمنية والسياسية، نغدو أمام السيناريو الكارثي الأسمى.
هل ستفعل النخب العربية الحاكمة شيئاً لمواجهة هذا الوضع مختلفاً عما داومت على فعله؟ على الأرجح لا، فأولويتها كانت ومازالت البقاء، ولو على أنقاض دولها ومجتمعاتها، أليس هذا ما يحصل اليوم في سورية والعراق واليمن ومصر، ومرشح للحدوث في غيرها؟ هنا يغدو الاستشراف حقاً مضيعةً للوقت، فما الغاية من المعرفة إذا كانت لا تفيد في تجنب وقوع الكارثة؟
لم يتأخر العرب كثيراً في دخول الحقل، إذ بدأ اهتمامهم به، في ثمانينيات القرن الماضي، وأنشأت بعض الدول العربية، منذ مطلع الألفية، لجاناً ومشاريع لدراسة المستقبل واستشرافه، مثل مصر 2020 والأردن 2020 وسورية 2025. وشارك في وضع هذه المشاريع جيش من الباحثين والخبراء العرب في مختلف صنوف المعرفة، درسوا واقع بلدانهم من النواحي الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية والتعليمية، وخرجوا باستنتاجات وتصورات وتوصيات عن المستقبل.
فماذا كان مصير هذه المشروعات والدراسات؟ الجواب هو الإهمال. ففي سورية مثلاً كانت كل المعطيات تفيد بتوجه البلاد نحو السيناريو الكارثي الذي تحدّث عنه مشروع 2025، في ضوء تقلص حجم الموارد، وتنامي عدد السكان وسوء توزيع الدخل وانغلاق المجال السياسي وسياسات الإقصاء والتهميش وانعدم التوازن في التنمية بين المدن والأرياف، وبين محور العمران حلب-دمشق والمناطق الشرقية من البلاد، وعدم القدرة على استغلال النافذة الديموغرافية الناشئة عن تنامي شريحةٍ الشباب في المجتمع. وازداد الوضع سوءاً بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد سنوات متلاحقة، وأخذت نتائجه تظهر، اعتباراً من عام 2008 على شكل هجرةٍ مليونيةٍ من منطقة الجزيرة باتجاه أطراف المدن الكبرى.
وبدل الذهاب باتجاه سياساتٍ تؤدي إلى عدالة أكبر في توزيع الثروة، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، تم تبني سياساتٍ نيوليبراليةٍ، أدت إلى تركيز مزيدٍ من الثروة والسلطة في يد القلة (تأسست مثلاً شركتا شام القابضة وسورية القابضة، وتملكان مجتمعتين أكثر من 60% من الناتج القومي لسورية)، ما أدى إلى حالة من الغليان المجتمعي، ازدادت سوءاً نتيجة تدافع الناس وتزاحمهم على الجزء اليسير من الموارد التي تركتها القلة المالكة للسلطة والثروة. ولم يكن الأمر يحتاج أكثر من شرارةٍ، لينفجر الوضع في سياق إقليمي ودولي مؤات.
وضع الاستشراف في بقية الدول العربية لم يكن شديد الاختلاف، حيث استخدمه صانع القرار أداةً لمزيد من الضبط والسيطرة، بدلاً من وضع استراتيجياتٍ لمواجهة التحديات ومحاولة التأثير في المدخلات، لتجنب السيناريو الكارثي في الحد الأدنى.
عادت، أخيراً، بعض مراكز البحث إلى الحديث عن مستقبل المنطقة العربية في ضوء الصراعات والأزمات التي تعيشها، وأيضاً في ظل تحولاتٍ مناخيةٍ أوصلت درجات الحرارة إلى مستويات غير مسبوقة هذا الصيف (بلغت 53 درجة مئوية في جنوب العراق في يوليو/ تموز الماضي)، وهو أمرٌ، بحسب الأمم المتحدة وعلماء المناخ، بات يهدّد حياة الإنسان، مع ندرة المياه في المنطقة.
ويرسم أكثر هذه الدراسات سيناريوهات كارثية للمنطقة العربية، آخذاً في الاعتبار اشتداد التنافس على الموارد المحدودة في ظل الزيادة الكبيرة في عدد سكان المشرق العربي الكبير (ارتفع عدد سكان سورية، والعراق، ومصر، وشبه الجزيرة العربية من 60 مليون عام 1950 إلى 315 مليون اليوم، ويتوقع وصوله إلى 470 مليون عام 2050). ويمثل هذا التنافس أحد أبرز وجوه الصراع الذي يأخذ اليوم أشكالاً مختلفة في المنطقة (طائفي – جيوسياسي...إلخ). ومع تنامي احتمال تفكّك الدولة المشرقية العربية، وقيام فواعل محلية (مليشيات وأمراء حرب ..إلخ) بالسطو على أدوارها الاقتصادية والأمنية والسياسية، نغدو أمام السيناريو الكارثي الأسمى.
هل ستفعل النخب العربية الحاكمة شيئاً لمواجهة هذا الوضع مختلفاً عما داومت على فعله؟ على الأرجح لا، فأولويتها كانت ومازالت البقاء، ولو على أنقاض دولها ومجتمعاتها، أليس هذا ما يحصل اليوم في سورية والعراق واليمن ومصر، ومرشح للحدوث في غيرها؟ هنا يغدو الاستشراف حقاً مضيعةً للوقت، فما الغاية من المعرفة إذا كانت لا تفيد في تجنب وقوع الكارثة؟