تسيطر حالة من عدم الرضا على غالبية السودانيين، من مآلات ثورتهم بعد عام على التوقيع على الوثيقة الدستورية بين العسكر والمدنيين، والتي مهّدت الطريق لتشكيل الحكومة الانتقالية الحالية، والتي تفشل، حسب الكثيرين، في تحقيق أهداف الثورة. مع العلم أن الوثيقة الدستورية وُقّعت في 17 أغسطس/آب 2019 بين المجلس العسكري، الذي سيطر على السلطة بعد الإطاحة بنظام عمر البشير، وقوى "إعلان الحرية والتغيير"، وهو تحالف لأحزاب وكتل قادت الحراك الثوري في عام 2018. وقضت الوثيقة التي توسط فيها الاتحاد الأفريقي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بتشكيل مجلس للسيادة مناصفة بين العسكريين والمدنيين، وبصلاحيات تشريفية، مع تشكيل حكومة مدنية من قبل "الحرية والتغيير". وحددت الوثيقة مدة الفترة الانتقالية بـ39 شهراً يتم فيها تحقيق السلام في مناطق النزاع في غضون 6 أشهر، وتحقيق إصلاح اقتصادي، عقب 30 عاماً من الدمار الذي خلفه نظام البشير، مع العمل على إزالة هيمنة النظام السابق على مفاصل الدولة ومحاكمة رموزه، وغيرها من الأهداف. وتلا التوقيع مباشرة، تشكيل مجلس السيادة، وتسمية عبد الله حمدوك رئيساً للوزراء الذي بادر بتسمية أعضاء حكومته، فيما تأجل تشكيل المجلس التشريعي حتى تاريخ اليوم، بينما تأخر تعيين ولاة مدنيين حتى نهاية الشهر الماضي، إذ ظلت هيمنة العسكريين في الولايات كما هي، طوال تلك الفترة التي تلت الوثيقة.
الثورة حتى الآن لم تحقق القصاص للضحايا ولم تحقق العدالة
سياسياً، وخلال العام الأول من عمر الوثيقة الدستورية، تصدع تماسك قوى "الحرية والتغيير"، الحاضنة السياسية للحكومة، أولاً بتبرم من "الجبهة الثورية" حتى قبل تشكيل الحكومة، مروراً بتجميد حزب "الأمة" القومي عضويته داخل التحالف احتجاجاً على عدم هيكلة التحالف والعمل غير المؤسسي فيه، وأخيراً سحب تجمع المهنيين السودانيين عضويته في هياكل التحالف، هذا غير الاعتراضات المستمرة لـ"المؤتمر السوداني" على أداء الحكومة.
أمنياً، شهدت عدد من المناطق في السودان اختلالات أمنية، وسيطرت الصراعات القبلية في العديد من المدن، آخرها حدثت في مدينة بورتسودان، الميناء الرئيسي للبلاد، والتي أودت بحياة 33 شخصاً وإصابة العشرات، كما ظل مشهد إغلاق الخرطوم عنصراً أساسياً مع كل دعوة للتظاهر.
اقتصادياً، لم تتمكن الحكومة من السيطرة على غلاء الأسعار التي تضاعفت بأكثر من مائة في المائة خلال الأشهر الـ12 الماضية، وتدهور سعر الجنيه السوداني، مقابل العملات الأجنبية الأخرى مثل الدولار الذي وصل سعره إلى 150 جنيها بعد أن كان في حدود 90 جنيها عند سقوط نظام البشير.
وإذا كانت الوثيقة الدستورية نصت على تشكيل لجنة للتحقيق في جريمة فض اعتصام محيط قيادة الجيش السوداني، والتي أدت إلى مقتل أكثر من مائة شخص، فإن اللجنة التي تم تشكيلها نهاية العام الماضي، عجزت حتى الآن عن تجهيز تقريرها النهائي الذي يأمل فيه الثوار وأسر الضحايا أن يكون أساس عملية العدالة والقصاص من القتلة ومحاسبة المسؤولين العسكريين الذين تورطوا في فض الاعتصام، الذي كان له الدور الأكبر في نجاح الثورة.
ويعبّر أحد جرحى الثورة السودانية، الذي فقد إحدى عينيه في 6 إبريل/نيسان 2019 صبيحة الدخول إلى اعتصام قيادة الجيش، بكري أزهري، عن خيبة أمله من نتائج عام من التوقيع على الوثيقة الدستورية وتشكيل الحكومة التي بيّنت، حسب تقديره، عجزاً كاملاً عن تحقيق أهداف الثورة، لدرجة أنه لا يشعر بأي تغيير حدث، وأن كل شيء باق كما تركه النظام البائد. ويبدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أسفه على الفشل في إزالة نظام البشير القابض على السلطة بشكل أو بآخر، معتبراً أن كل ما يحصل من محاكمات ومصادرات بواسطة لجنة إزالة التمكين ليس إلا عملاً ظاهرياً، القصد منه امتصاص الغضب الشعبي ليس إلا.
ويضيف أزهري أن الأحزاب التي آلت لها مقاليد القرار بعد نجاح الثورة، عمدت إلى اتباع نهج المحاصصة الحزبية في توزيع المناصب العامة، مستدلاً بتعيين ولاة الولايات المدنيين الشهر الماضي. ويرى أن العسكر يسيطرون على مقاليد السلطة على حساب المدنيين، معتبراً أن أي تصحيح لمسار الثورة يتلخص في إبعاد العسكر وجعل السلطة مدنية مائة بالمائة.
لكن سعيد أحمد سعد، وهو أيضاً أحد شباب الثورة، ولم يتخلف كما يقول لـ"العربي الجديد" عن أي موكب من المواكب الثورية ضد نظام البشير، يؤكد أنه راضٍ عن الأداء الحكومي ويتفهّم أسباب الإخفاق التي يحصرها في التركة الثقيلة للنظام السابق، الذي يعمل بكل قوة لإفشال الحكومة ووضع العراقيل والمطبات أمام خطط الإصلاح السياسي والاقتصادي والأمني. ويوضح سعد أنه، ولمواجهة النظام السابق، لا بد من تنفيذ العدالة بحقه ومحاكمة رموزه وملاحقتهم وإفشال خططهم في تخريب الاقتصاد والأمن وغيرهما.
غير أن المتحدث السابق باسم تجمع المهنيين، محمد عبد العزيز، يرى أن مسيرة العام الماضي غير مبشرة وأن نتائجها محبطة تماماً له وللشارع السوداني وللثوار بصفة خاصة الذين دفعوا دماءهم ثمناً للثورة. ويوضح عبد العزيز، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن الوضع الاقتصادي تفاقم بشكل مخيف ومزعج، وأثبتت أحزاب "الحرية والتغيير" أنها أقل قامة من الثورة، وبدلاً من تحقيق أهداف الثورة لجأت إلى حصاد أكبر قدر من المكاسب الذاتية. ويشير إلى أنه تمّ اختطاف المجلس المركزي لقوى "الحرية والتغيير" من قِبل مجموعات صغيرة واختطاف القرار داخل الكتل السياسية نفسها، مؤكداً أن الثورة حتى الآن لم تحقق القصاص للضحايا ولم تحقق العدالة في مواضيع أخرى، وكل ما فعلته الحكومة فيها تشكيل لجان تحقيق لم تقدم تقاريرها حتى الآن.
لم تتمكن الحكومة من السيطرة على غلاء الأسعار التي تضاعفت بأكثر من مائة في المائة
ويراهن عبد العزيز على حراك هذه الأيام بواسطة لجان المقاومة لتصحيح مسار الثورة، بداية من الموكب المعلن اليوم الإثنين بمناسبة التوقيع على الوثيقة الدستورية، وهو حراك مفتوح وقابل للتغيير في استخدام كافة الوسائل السلمية لتحقيق غرضه بتصحيح مسار الثورة وتحقيق أهدافها بالكامل أو مغادرة الحكومة بالكامل.
أما الواثق البرير، الأمين العام لحزب "الأمة" القومي، أحد مكونات تحالف "الحرية والتغيير"، فيقول لـ"العربي الجديد" إن حزبه الذي جمّد عضويته في "الحرية والتغيير"، أعدّ ملفاً كاملاً يحوي كشف حساب للعام الماضي، الذي يرى أن طابعه العام هو الفشل في كل شيء، وأوله في تحقيق السلام وفي تفكيك النظام القديم وعدم إكمال هياكل السلطة الانتقالية، بما فيها إنشاء مفوضية السلام ومفوضية الخدمة العامة، ومفوضية مكافحة الفساد، ومفوضية الانتخابات. وهذا غير الإخفاق في توفير الاحتياجات الضرورية للمواطنين، ما أدى إلى أزمات معيشية، وتحديداً في توفير الخبز والوقود. ويوضح أن حزب "الأمة" اقترح مؤتمراً تأسيسياً جديداً لتحالف "الحرية والتغيير" لمعالجة كل الإشكاليات وتقييم أداء الحكومة ككل خلال الفترة الماضية، ومراجعة أداء مجلس السيادة أيضاً ووضع برامج عملية لتحقيق السلام والاقتصاد، وكل ذلك من أجل الحفاظ على الفترة الانتقالية والانتقال لوضع ديمقراطي كامل.
لكن مقرر المجلس المركزي لقوى "الحرية والتغيير"، كمال بولاد، يقول لـ"العربي الجديد" إن الثورة حققت الهدف الأكبر وهو إسقاط النظام البائد وبروز عهد الحريات والرأي الآخر، في حين حدثت بعض الإخفاقات سببها الورثة الضخمة من التخريب الذي مارسه النظام السابق، والتعقيدات اليومية من جهة، وضعف الأداء التنفيذي للحكومة من الجهة الأخرى.
ويوضح بولاد أن التحالف سيبادر في المرحلة المقبلة إلى جملة مراجعات تبدأ بتقييم عمل التحالف وتصحيح مساره، لأنه التحالف الأوسع في الساحة السياسية والذي يقف خلف الثورة ويعمل لتحقيق أهدافها، مشيراً إلى أن المراجعة ستشمل كذلك عمل جهاز الدولة التنفيذي الحكومي، وكل مؤسسات المرحلة الانتقالية. وينوّه إلى أن الشعب السوداني صبر على ما حدث في العام الماضي ويستحق تعويضه في العام المقبل بتحقيق آماله وتطلعاته، موضحاً أن تحالف "الحرية والتغيير" سيعقد مؤتمراً نهاية الشهر الحالي لتقييم التجربة وتوسيع هياكله ووضع خارطة طريق جديدة للحكومة، تركز على المعالجات الاقتصادية التي تضمن للمواطن الحد الأدنى من العيش الكريم.