يتربّع أردوغان على قمة الهرم السياسي التركي. استطاع خلال 13 عاماً من وجوده في السلطة، سواء في منصب رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة، على مختلف الأصعدة السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، وبكل ما يمكن توجيهه من انتقادات له، إعادة إنتاج اليمين التركي ليحوّله إلى عمود الجمهورية الفقري مُزيحاً "الكماليين". وتجاوز أردوغان كل ما أنجزته قيادات يمين الوسط التركي الكاريزماتية سواء القومي منها، كرئيس الوزراء السابق عدنان مندريس أو رئيسَي الجمهورية السابقَين تورغوت أوزال، وسليمان دميريل، أو حتى اليمين الديني كرئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان. وبحسب مراقبين، فإنه ليس من المبالغة اعتبار أردوغان المؤسس الثاني للجمهورية أو مؤسس جمهورية المحافظين الأتراك، حتى أن الانتقال إلى النظام الرئاسي بات مسألة وقت لا أكثر.
سجّل أردوغان، خلال العام الماضي، عدداً من الانتصارات السياسية التي تحسب له شخصياً خصوصاً، إضافة إلى الإنجازات العسكرية للجيش التركي على حزب العمال الكردستاني. كان انتصار أردوغان الأول إصراره على إعادة الانتخابات البرلمانية على الرغم من جميع المخاطر التي كان يحملها هذا الخيار. وبالفعل، نجح أردوغان في هذا الاستحقاق، واستعاد "العدالة والتنمية" الغالبية البرلمانية الكافية للتفرد في الحكم. لكن هذا النجاح ما كان ليحصل لولا تخبط قيادات المعارضة التركية، وخياراتها التي دفعت الناخبين المنفصلين عن كتلة "العدالة والتنمية" للعودة إليه مرة أخرى. ويجمع مراقبون على أن تشكيل أي حكومة ائتلافية مهما كان عمرها كان كفيلاً بإيقاف صعود أردوغان، لكن كان لخيارات المعارضة التركية التي فشلت في دفع "العدالة والتنمية" لحكومة ائتلافية، نتائج كارثية عليها.
على مستوى حزب الحركة القومية، استطاع "العدالة والتنمية" الترويج لاسم "مستر نو" أو "السيد كلا" لزعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي (يميني متطرف)، الذي رفض المشاركة في أي حكومة ائتلافية، سواء بالتحالف مع أحزاب المعارضة أو مع "العدالة والتنمية". وتزامن هذا الأمر مع فقدان "الحركة القومية" لأي ميزة في الخطاب السياسي بعد عودة الاشتباكات بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، وانتهاء عملية السلام، مما دفع الكثير من ناخبي الحركة القومية للتصويت لـ"العدالة والتنمية" مرة أخرى، خصوصاً بعد النجاح الكبير في توجيه ضربات قاسية لـ"الكردستاني". وتعاني "الحركة القومية"، حالياً، بعد الخسارة الكبيرة التي منيت بها في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، من خلافات عميقة للغاية بين قياداتها، قد تنهي، خلال مؤتمره المقبل بعد شهر، الحياة السياسية لزعيمها بهجلي، بعد أكثر من ثلاثين عاماً من العمل السياسي قضى عشرين منها في زعامة "الحركة".
على مستوى حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة)، وعلى الرغم من برنامجه الانتخابي الذي استنسخ "العدالة والتنمية" أجزاء واسعة منه ساهمت بانتصاره في انتخابات نوفمبر، فشل "الشعب الجمهوري" في توسيع قاعدة مؤيديه، لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها فشله في تشكيل الحكومة الائتلافية على الرغم من المفاوضات الطويلة التي خاضها مع "العدالة والتنمية" بعد انتخابات يونيو من العالم الماضي. وروّج الأخير لـ"فقدان الشريك القادر على تحمل المسؤولية بينما تواجه الدولة خطر الإرهاب"، كما استغل رئيس الوزراء، رئيس "العدالة والتنمية" السابق، أحمد داود أوغلو الموقف المرتبك لـ"الشعب الجمهوري" من حزب العمال الكردستاني وجناحه السياسي "الشعوب الديمقراطي"، لضرب "عصفورَين بحجر واحد"، عبر تمرير التعديلات الدستورية لرفع الحصانة البرلمانية عن جميع النواب ممن يوجد بحقهم مذكرات رفع حصانة.
ووفقاً لمراقبين، لو رفض "الشعب الجمهوري" تمرير التعديلات، كان سيضطر إلى مواجهة "العدالة والتنمية" في استفتاء شعبي محسوم لصالح الموافقة على هذه التعديلات. بالتالي سيظهر "الشعب الجمهوري" مُدافعاً عن "الإرهاب"، وسيخسر المزيد من الناخبين، وفقاً للمراقبين. وعلى الرغم من أن "الشعب الجمهوري" وافق على تمرير التعديلات، مر ذلك بصعوبة بالغة، وفتح الباب على مصراعيه لخلافات حادة في صفوف الحزب، أضعفت موقف زعيمه الحالي كمال كلجدار أوغلو، وسمحت لـ"العدالة والتنمية" الانتقام من نواب "الشعوب الديمقراطي"، وبالتالي، حقق "العدالة والتنمية" كامل أهدافه.
أما حزب "الشعوب الديمقراطي"، ومنذ الساعات الأولى على انتخابات يونيو/حزيران العام الماضي (التي نال فيها حزبه 258 نائباً من أصل 550، قبل أن يسحق في انتخابات نوفمبر وينال 317 نائباً)، "لعب" أردوغان على وتر تمكين فقدان الثقة بين قيادات "الشعوب الديمقراطي" وقيادات "العمال الكردستاني" في قنديل، التي باتت مرعوبة من إمكانية تجاوزها، عبر الحديث عن أن المُخاطب والممثل الوحيد لعملية السلام بات "الشعوب الديمقراطي"، وبالتالي سيتم نقل العملية إلى البرلمان وتجاوز قنديل وزعيم "الكردستاني" عبدالله أوجلان. هذا الأمر ترافق مع رؤية ساسة قنديل التي عبر عنها عدد من القيادات مرات عدة، متمثلة في أن انهيار الحكومة في أنقرة، في ذلك الوقت، بات قاب قوسين أو أدنى، ولا يحتاج إلّا إلى القليل من المعارك الناجحة حتى يتم الأمر.
لكن نجاح قوات الأمن التركية في توجيه ضربات قوية لـ"الكردستاني" ساهم في تعزيز دعاية "العدالة والتنمية" لنفسه على أنه الضامن الوحيد للاستقرار. جاء كل ذلك في ظل تخبط واضح في صفوف قيادات "الشعوب الديمقراطي" في التعامل مع عودة الاشتباك بين "الكردستاني" والحكومة، وفشلها في إنتاج خطاب سياسي مقنع للحافظ على الأصوات التي حصلت عليها، ليبدو "الكردستاني" وجناحه السياسي في أسوء مراحله تاريخياً على جميع المستويات.
اليوم، بات أردوغان الزعيم الأوحد لتركيا بغضّ النظر عن تقييم عهده من نواحي الحريات والتعاطي مع الصحافة والمعارضين والاتهامات الموجهة له بالفساد. لقد تمكّن الرجل من إتمام العملية الانتقالية نحو النظام الرئاسي، بسلاسة عالية، عبر إزاحة داود أوغلو من رئاسة الوزراء، ووضع ذراعه الأيمن، أحد مساعديه بن علي يلدرم في المنصب، مثبّتاً النظام الرئاسي، بحكم الأمر الواقع، في انتظار شرعنة الأمر، عبر الدستور الجديد. وبالتالي، يكون أردوغان قد حقق كل أحلامه. وبعدما تمكن من القضاء على حركة الخدمة بقيادة فتح الله غولان، نجح في إعادة تموضع اليمين التركي في قلب الجمهورية التركية، بالتحالف مع المؤسسة العسكرية بعد إنهاء جميع القضايا التي واجهها ضباط الجيش، لتدخل البلاد في ما يُمكن أن يطلق عليها الآن "جمهورية المحافظين الثانية" بعد الأولى التي أسسها الكماليون.