يعيش أهالي القدس أجواء التهديد المستمر بضمها نهائياً إلى كيان الاحتلال، مع ما يعنيه ذلك من طرد لهم من أرضهم. بعضهم هجّر بالفعل من القدس عام 1948، وعاش أهوال النكبة، لكنّه يتمسك بحلم العودة لأرضه
لم يكن غالب راتب الوعري (أبو ماهر) قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره حينما هجّرت العصابات الصهيونية عائلته إبان نكبة فلسطين من منازلها في مدينة القدس من ناحيتها الغربية. اليوم هو في الثانية والثمانين، وقد استقرت عائلته في البلدة القديمة ونشأ فيها وكبر بين أزقتها وحاراتها لينجب هناك من الأبناء والبنات من هم الآن كما أبيهم وكما من قبلهم جدهم راتب الوعري، يحلمون بالعودة إلى بيت العائلة في محلة الوعرية التحتا من حي البقعة، التي استولى عليها الصهاينة وبات من المحرّم عليهم دخولها أو حتى الوجود في محيطها كما يروي أحد أبناء العائلة.
غالب راتب الوعري (العربي الجديد) |
حين احتلت العصابات الصهيونية آخر ما تبقى من أحياء القدس في ناحيتها الغربية خصوصاً البقعة والطالبية والقطمون، انتقلت معظم العائلات الفلسطينية من هناك إلى القدس القديمة متجاوزة خط الهدنة وكانت آنذاك تحت سيطرة الجيش الأردني وكتائب المجاهدين الفلسطينيين من أبناء المدينة ومن العرب، وعلى رأسهم الشهيد عبد القادر الحسيني، بطل معركة القسطل.
أبو ماهر الوعري، وهو واحد من أشهر وأقدم الحلاقين المقدسيين، يقيم الآن في حي وادي الجوز، شمالي البلدة القديمة من القدس، تفصله عن بيت العائلة في حي البقعة مسافة خمس عشرة دقيقة، لكنّ هذه المسافة باتت اليوم أطول بكثير، باتت بعمر النكبة نفسها كما يقول أبو ماهر لـ"العربي الجديد". هو ما زال يحلم بالعودة إلى الحيّ، ليستقر في بيته بعدما غادرته عائلته خوفاً من مذابح العصابات الصهيونية، التي كان أشهرها مذبحة دير ياسين. يقول أبو ماهر: "كنا مضطرين للمغادرة كما روى لنا والدنا، وذلك بعدما سرت أنباء المجزرة في دير ياسين فانتقلنا على عجل برفقة والديّ إلى البلدة القديمة من القدس وبقينا هناك حتى وقعت حرب عام 1967 وسقطت المدينة بأيدي الاحتلال لنعيش ونعايش نزوحاً جديداً ونكون شهوداً على تفاصيل كثيرة مما روي عن سقوط المدينة".
ما تذكره شهادات وروايات من عايشوا تلك الفترة أنّ المجاهدين بقيادة عبد القادر الحسيني، وفوزي القاوقجي، وعبد الله التل تقدموا وحققوا انتصارات على الأرض في الشطر الغربي من المدينة المقدسة في مواجهة العصابات الصهيونية إلى أن جاءت التعليمات لهذه الكتائب بالانسحاب فجأة، ثم حدث بعد ذلك ما حدث من مآسٍ ونكبات. ترافق كلّ هذا مع توطيد الاحتلال سيطرته على المدينة المقدسة بكاملها، وباتت آلاف العقارات في قبضة الاحتلال الذي نقل ملكيتها إلى مستوطنين أقاموا فيها وما زالوا، بينما النكبة ظلت ترسم فصولاً حزينة من معاناة أصحاب العقارات التي كانت رمزاً لأكثر تصاميم البناء جمالاً في ذلك الوقت.
واحد وسبعون عاماً لم تُنسِ أبا ماهر، وأبناءه أنّ لهم حقاً مسلوباً هناك في البقعة، تماماً كما هي الحال مع آلاف المقدسيين الذين تقدر معطيات لباحثين عدد العقارات المسلوبة منهم في القدس الغربية الآن بقرابة عشرة آلاف عقار. يستقبل "العربي الجديد" في صالون الحلاقة الخاص به، ويتعذر الذهاب إلى المكان الذي كان فيه بيته الأصلي. كان يحاول مراراً الذهاب، وفي المرة الأخيرة خرج إليه قاطنه الجديد وسالب حق العائلة فيه ليهدده ويحذره من العودة إلى محيط المنزل مهدداً إياه بجلب الشرطة الإسرائيلية. عبثاً حاول أبو ماهر أن يقنع المستوطن أنّه يقيم في عقار لا حق له فيه.
أملاك الوعرية كثيرة، وكما العائلات الأخرى في الطالبية والقطمون المجاورين لحي الوعر، فهناك كثير من العقارات، التي تحولت إلى مساكن لليهود أو مؤسسات ومراكز، لكنّ نمط البناء العربي يذكّر الجميع حتى المحتلين، بأنّ للمكان هوية أخرى غير الهوية الجديدة، بينما ما زال الحلم باستعادتها والعودة إليها ماثلاً وحاضراً.
جغرافياً يقع حي البقعة، في جنوب البلدة القديمة من القدس، بمحاذاة طريق بيت لحم، ووفقاً للباحث طاهر النمري، فقد "ظهر اسم البقعة في الخرائط ووثائق التسجيل العائدة لغوردون باشا الذي أشرف سنة 1864، على توثيق أسماء الأماكن التاريخية في فلسطين. قبل ذلك، كان اسم البقعة يستعمل للإشارة إلى هذه المساحة نفسها من الأرض في سجلات الوقف الإسلامي. وعرف البقعة أيضاً باسم وادي الورود، لوفرة الورود في الحدائق التي كان يصنع منها ماء الورد الخاص بالكنائس، وكذلك لسدّ حاجة السكان منه".
وفي بحث له عن محلة النمامرة في البقعة، يشير الباحث طاهر النمري، إلى أنّ عائلتين مقدسيتين كانتا تقطنان خارج الأسوار. توجهت العائلة الأولى، النمري، إلى البقعة التحتا، بينما انتقلت العائلة الأخرى، الوعري، إلى البقعة الفوقا بعدما حصلت من المتصرف العثماني، على قطعة من أراضي الدولة في البقعة. وسموا بالوعري، لتركهم القدس المسورة، وسكنوا الأرض الجديدة الوعرة.
ويرتبط حي البقعة بحكاية فيلا تعود لعائلة حسن عويضة في البقعة الفوقا، وهي تقع على بعد نحو كيلومتر واحد إلى الجنوب من أسوار البلدة القديمة، جرى بناؤها في العشرينيات من القرن الماضي، وسط حديقة جميلة مكسوة بالنباتات والأزهار والأشجار العالية تملأ المكان بأجواء ساحرة. ووفقاً لما ترويه جمعية فلسطينيات عن الكاتب جهاد أبو ريّا، فإنّ هذا البيت أقامت فيه المغنية أسمهان (الأطرش) في بداية الأربعينيات، وكانت صديقة العائلة، إذ طلبت أن تقيم في فندق "موديرن" في حي "مأمن الله" الذي تمتلكه العائلة، لكنّهم أصروا أن تقيم في بيتهم الجميل. واستمر البيت عامراً حتى مايو/ أيار 1948، حينها هجّر الصهاينة أهل الحي. ولم يأخذ أبناء عائلة عويضة شيئاً من بيتهم سوى مفتاح البيت، لقد أبقوا كلّ شيء مكانه، وأغلقوا الباب على أمل أن يعودوا إليه بعد أسبوع.
لم تمرّ إلا بضعة أيام حتى بدأ الصهاينة عمليات السطو على البيت، كسروا قفله وبدأوا بنهب محتوياته. كانوا يتنازعون في ما بينهم على محتوياته. في اليوم الأول نهبوا أثاث البيت جميعها، التحف والإكسسوارات والمقاعد والخزائن والأسرّة والسجاد وأدوات المطبخ والثلاجة والراديوهات والمصابيح، لم يبقوا شيئا، كانوا يحملونها على العربات التي تجرها الخيل وعلى الشاحنات الصغيرة. أما الكتب فقد حضر إلى المكان موظفون من الجامعة العبرية وأخذوها معهم.
في اليوم التالي عادوا إلى البيت وبدأوا بتفكيك الشبابيك والأبواب والحنفيات وأسلاك الكهرباء ونهبها، وبعد ذلك بدأوا بتفكيك البلاط والقرميد بحثاً عن نقود وكنوز كانوا يظنون أنّ عائلة عويضة خبأتها هناك. امتلأ البيت أوساخاً ونفايات من مخلفات السطو والنهب حتى بدا خرابة. ومثلما حدث مع فيلا عويضة، كان مصير العقارات الأخرى، ومنها عقارات عائلة أبو ماهر الوعري التي لن تنسيها سنوات النكبة حقها في العودة إلى بيتها أطال الزمان أم قصر، هذا ما يقوله أبو ماهر، وهو ما ربى عليه أبناؤه الذين لن ينسوا.