03 يوليو 2019
ظلال شخصية في مرآة النكبة
ماذا بقي ليقال في ما تبقى من عمر؟ سألت نفسي، وأنا أتذكّر كيف كاد قلبي يتوقف عن النبض من فرط الفرح، حين فوجئت، في مثل هذه الأيام، قبل خمس وثلاثين سنة، باختيار أول تقرير إخباري أكتبه، ليحتل غلاف مجلة الهدف الأسبوعية الفلسطينية التي كانت قد استأنفت صدورها في دمشق، مهاجرة، أو لاجئة من بيروت، عقب سقوط الأخيرة، عام 1982 أمام جحافل الغزو العسكري الإسرائيلي.
لم يخطر ببالي، حينئذ، أن أكتب مشاعري، أو أن أوثّق إحداثياتها، لتكون في يوم من الأيام، موضوع مراجعةٍ ذاتية، أو حتى مدخل تأملاتٍ، مثل هذه التي أهم بها الآن، كما أني لم أحاول، في تلك الآونة، حتى إلقاء نظرة أعمق على داخلي، وعلى ما حولي، كي أرى إن كان هناك ما يستحقّ الفخر والاعتزاز، فعلاً، أو أن أحاسيسي، عند ذلك المنعطف الشخصي المغرق في البعد، ما كانت سوى نشوة خادعة، وفارغة من المعنى.
وإذ أعود، بعد ثلاثة عقود ونيف، لأحدّق في مرآتي القديمة قدم النكبة، بحثاً عن جوابٍ لتساؤلي، سأجد ظلالاً ما زالت تستعصي على الامحاء؛ هذا اسمي أنا الشاب اليافع المولود في وحل أحد مخيمات اللجوء، يتصدر صفحات مجلةٍ أسّسها غسان كنفاني، الأديب والكاتب الصحافي الذي كان قد تصدّر أبناء جيله في إبداع رواية النكبة الفلسطينية، ثم كان أول من كتب بدمه لفلسطين، حين انفجرت فيه أول قنبلة إسرائيلية مفخّخة، عرفها تاريخ الصراع، وها هي مقالتي الأولى، أنا الأسير المحرّر، للتو، من معسكرات اعتقال أقامها الغزاة في جنوب لبنان، تقول إن القوة الغاشمة التي استطاعت دحرنا، وسلاحنا، بعيداً عن تخوم بلادنا، لن تمنعنا من استئناف المقاومة، حيثما نكون "إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة، النجوم لميقاتها، والطيور لأصواتها، والرمال لذراتها"، وفق أبيات شعر طالما دغدغت أحلام شبابي، للشاعر المصري الراحل أمل دنقل في قصيدته الشهيرة "لا تصالح".
على صفحة المرآة المتآكلة بعض الشيء، ستلوح لي أيضاً ظلال أخرى كثيرة، لم يحجبها الصدأ، ويتشابك فيها الشخصي بالوطني، والقومي، والإنساني، لتعكس الأمل، حافزاً أهم طالما كان وراء كل كلمة كتبتها، قبل أن أصل أخيراً إلى إمعان النظر في ما حولي، وأطرح السؤال الاستهلالي لمقالتي هذه؛ "ماذا بقي ليقال، في ما تبقى من عُمر؟"، مدفوعاً ببلوغنا، أعني العرب أجمعين، ما ظننته اليأس من إمكانية مغادرتنا مستنقع الهزيمة المتوازية أيضاً مع انهيار أخلاقي واسع النطاق، بات يجد تعبيره المخزي، كل دقيقة، في تعالي الأصوات الداعية إلى نبذ قيم الثورة والحرية، والكرامة، والعدل، لتبرّر الدفاع عن الحُكام الطغاة الفاسدين، مردّدة طنيناً مقزّزاً ينادي بالتعاطف، بل بالتحالف مع إسرائيل، بذريعة الأكذوبة القائلة إن "الفلسطينيين باعوا أرضهم".
ذلك كله، وسواه من الخيبات الشخصية، أعترف، دفعني إلى التفكير في أن "أستأذن بالانصراف"، وفق تعبير استخدمه الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، حين نشر مقالة بهذا العنوان قبل خمسة عشر عاما، غير أني تردّدت، ابتداءً، ثم سرعان ما نبذت الفكرة اليائسة، لا تحسّباً من أن أضطرّ إلى التراجع عنها، بعد فترةٍ وجيزة، مثلما فعل، وإنما لأن ألوف الشبان الذين بزغوا فجأة في قطاع غزة ليقتلعوا سياجاً شائكاً فصلهم عن ديارهم المحتلة، سبعين سنة، قد أعادوني إلى عام 1983 حين كتبت التقرير الأول في تاريخي المهني عن تمرّد ألوف الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين الذين كنت واحداً منهم، وكيف اقتلعوا سياجاً شائكاً كان يفصل معسكرات اعتقالهم في بلدة أنصار، جنوبي لبنان، عن بعضها بعضا.
أين معتقلات أنصار اليوم؟ هذا هو السؤال الآخر الذي تجيب عليه مرآة التاريخ بظلالٍ ناطقةٍ تقول إن خلع الأسيجة الشائكة هو بداية نهاية السجن، كبر أو صغر، وأياً كان مكانه، ومهما كانت قوة حرّاسه، والمتواطئين معهم.
لم يخطر ببالي، حينئذ، أن أكتب مشاعري، أو أن أوثّق إحداثياتها، لتكون في يوم من الأيام، موضوع مراجعةٍ ذاتية، أو حتى مدخل تأملاتٍ، مثل هذه التي أهم بها الآن، كما أني لم أحاول، في تلك الآونة، حتى إلقاء نظرة أعمق على داخلي، وعلى ما حولي، كي أرى إن كان هناك ما يستحقّ الفخر والاعتزاز، فعلاً، أو أن أحاسيسي، عند ذلك المنعطف الشخصي المغرق في البعد، ما كانت سوى نشوة خادعة، وفارغة من المعنى.
وإذ أعود، بعد ثلاثة عقود ونيف، لأحدّق في مرآتي القديمة قدم النكبة، بحثاً عن جوابٍ لتساؤلي، سأجد ظلالاً ما زالت تستعصي على الامحاء؛ هذا اسمي أنا الشاب اليافع المولود في وحل أحد مخيمات اللجوء، يتصدر صفحات مجلةٍ أسّسها غسان كنفاني، الأديب والكاتب الصحافي الذي كان قد تصدّر أبناء جيله في إبداع رواية النكبة الفلسطينية، ثم كان أول من كتب بدمه لفلسطين، حين انفجرت فيه أول قنبلة إسرائيلية مفخّخة، عرفها تاريخ الصراع، وها هي مقالتي الأولى، أنا الأسير المحرّر، للتو، من معسكرات اعتقال أقامها الغزاة في جنوب لبنان، تقول إن القوة الغاشمة التي استطاعت دحرنا، وسلاحنا، بعيداً عن تخوم بلادنا، لن تمنعنا من استئناف المقاومة، حيثما نكون "إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة، النجوم لميقاتها، والطيور لأصواتها، والرمال لذراتها"، وفق أبيات شعر طالما دغدغت أحلام شبابي، للشاعر المصري الراحل أمل دنقل في قصيدته الشهيرة "لا تصالح".
على صفحة المرآة المتآكلة بعض الشيء، ستلوح لي أيضاً ظلال أخرى كثيرة، لم يحجبها الصدأ، ويتشابك فيها الشخصي بالوطني، والقومي، والإنساني، لتعكس الأمل، حافزاً أهم طالما كان وراء كل كلمة كتبتها، قبل أن أصل أخيراً إلى إمعان النظر في ما حولي، وأطرح السؤال الاستهلالي لمقالتي هذه؛ "ماذا بقي ليقال، في ما تبقى من عُمر؟"، مدفوعاً ببلوغنا، أعني العرب أجمعين، ما ظننته اليأس من إمكانية مغادرتنا مستنقع الهزيمة المتوازية أيضاً مع انهيار أخلاقي واسع النطاق، بات يجد تعبيره المخزي، كل دقيقة، في تعالي الأصوات الداعية إلى نبذ قيم الثورة والحرية، والكرامة، والعدل، لتبرّر الدفاع عن الحُكام الطغاة الفاسدين، مردّدة طنيناً مقزّزاً ينادي بالتعاطف، بل بالتحالف مع إسرائيل، بذريعة الأكذوبة القائلة إن "الفلسطينيين باعوا أرضهم".
ذلك كله، وسواه من الخيبات الشخصية، أعترف، دفعني إلى التفكير في أن "أستأذن بالانصراف"، وفق تعبير استخدمه الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، حين نشر مقالة بهذا العنوان قبل خمسة عشر عاما، غير أني تردّدت، ابتداءً، ثم سرعان ما نبذت الفكرة اليائسة، لا تحسّباً من أن أضطرّ إلى التراجع عنها، بعد فترةٍ وجيزة، مثلما فعل، وإنما لأن ألوف الشبان الذين بزغوا فجأة في قطاع غزة ليقتلعوا سياجاً شائكاً فصلهم عن ديارهم المحتلة، سبعين سنة، قد أعادوني إلى عام 1983 حين كتبت التقرير الأول في تاريخي المهني عن تمرّد ألوف الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين الذين كنت واحداً منهم، وكيف اقتلعوا سياجاً شائكاً كان يفصل معسكرات اعتقالهم في بلدة أنصار، جنوبي لبنان، عن بعضها بعضا.
أين معتقلات أنصار اليوم؟ هذا هو السؤال الآخر الذي تجيب عليه مرآة التاريخ بظلالٍ ناطقةٍ تقول إن خلع الأسيجة الشائكة هو بداية نهاية السجن، كبر أو صغر، وأياً كان مكانه، ومهما كانت قوة حرّاسه، والمتواطئين معهم.