سيحتفظ التاريخ لرئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير، بمكانة خاصة من حيث كونه الزعيم "العمّالي" الأقرب إلى عقيدة حزب المحافظين في بريطانيا، بل وأقرب المقربين من الإدارة الأميركية في عهد جورج بوش ومُحافِظِيها الجُدُد، والني سايَرَها من دون أن يبدي في أية لحظة تردّداً، بل كان أحياناً هو الدينامو لكل مبادرة أميركية، في الحرب على العراق أو في دعم الكيان الصهيوني والتآمر على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الفائزة في انتخابات ديموقراطية، والتضييق على فلسطينيي غزة وغيرها. ولو أن الواقع السياسي لم يكن كما هو عليه، لكان بلير سعيداً وهو في لباس حاكم ولاية أميركية، أو قائد أسطول أميركي في مكان ما من بحار العالم.
وما التصريحات الأخيرة لهذا الزعيم المحاضر والمستشار لكثير من الحكومات والدول، ومن بينها ليبيا ــ معمر القذافي، إلا دليل على أنه لا يرى الخطر إلا في الإسلام، وبالطبع في تفريعاته من التطرف والجهاد وما شابه.
إذاً، فالخطر الداهم على العالَم الغربي المتحضر هو "التطرف الإسلامي"، لكن بلير وغيره من زعماء الغرب لا يعرفون الشيء الكثير، وحتى الكافي عن الإسلام، حتى يَخرُجُوا بصورة واضحة بعيدة عن الصور النمطية "الستيريوتيبات"، و"الكليشيهات" الجاهزة. وبما أن بلير هو وريث الامبراطورية البريطانية العريقة، فهو يستطيع أن يميّز، مثلاً، بين "الهندي الطيب" و"الهندي السيئ"، في القراءة الاستعمارية للشعوب.
وهذه التصريحات التي لا ترى خطراً داهماً على الغرب، إلا مما هو آتٍ من الإسلام، تكشف أن الرجل، رغم قيادته لبريطانيا خلال فترة طويلة نسبيّاً، وصداقاته مع زعماء عرب ومسلمين، لا يزال يفكر بعقلية الصليبي أو من خرج للتو من قراءة عمياء لتاريخ الصدام بين الشرق والغرب، وأنه تبنى فكرة "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"، وأن الشرقّ ليس له سوى اسم واحد وهو الاسلام. أو أنه قرأ نصوص صاموئيل هنتنغتون عن صدام الحضارات مع توابل المستشرق الهزيل برنار لويس.
والذين يعرفون تاريخ الرجل وكذبه على الشعب البريطاني عن خطر عراقي داهم في 20 دقيقة، يعرفون أنه كان الدمية في يد السيد الأميركي، ولهذا فتصريحاته الجديدة عن "التطرف الإسلامي" تعتبر واحدة من خطابات واجترارات الرجل، فالشعب الفلسطيني في غزة يعرف الدور الذي أدّاه في خنقه بالتآمر مع الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، كما أن اللبنانيين يعرفون جيداً دعم الرجل للعدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006.
لا يشرح بلير جيداً لماذا يجب التركيز على محاربة هذا "التطرف الإسلامي"، ولا يقرأ أبداً نتائج انغماسه مع الولايات المتحدة الأميركية في محاربته، مثلاً، في أفغانستان، وكيف ارتدّ وبالاً عليهم وكيف أصبحت القوى الاسلامية المتطرفة أقوى من ذي قبل.
وحتى إذا كان أسياد بلير من الأميركيين يفكرون في تصدير الديموقراطية الأميركية إلى بلدان العالم الاسلامي كبديل عن الاستبداد الشرقي، كما يقول بوش الابن في "حربه الصليبية"، فإن بلير لا يفكر سوى في الآني والمؤقت، ولم يفكر قط على المستوى البعيد. وكم كانت مضحكة ومثيرة للسخرية صداقته مع الدكتاتور الليبي معمر القذافي. وفي الوقت الذي كان فيه الشعب الليبي يناضل ويموت، من أجل حريته، كان بلير يصارع لإقناع الرئيس الأميركي باراك أوباما بعدم جدوى إطاحة الدكتاتور الليبي.
يخترع بلير أكاذيب ويُصدقها، ويحاول أن يجعلنا نُصدّقه، وكم كانت نُكتته الأخرى مضحكة حين تحدث عن امتلاكه لمصحف من القرآن واستغراقه في قراءته، وبالطبع لا يقول لنا حصيلة قراءته، لأن المهم هو استخلاص الدروس. وعيب بلير، كما عيب المحافظين الجدد، الذين يؤمنون بالدعم المقدس للكيان الصهيوني، أنهم "أْسرى حقائقهم"، ولن يكون مفيداً، بالنسبة إليهم، أن يقرأوا مَن يقول غير آرائهم.
غريب حقاً أن يأتي سياسي بريطاني ووراءه تاريخٌ طويلٌ من العلاقات البريطانية مع الإسلام ويتفوه بمغالطات لا يقترفها حتى أطفال المدارس. ولحسن حظ القارئ البريطاني أن ثمة حكماء يرون الحقائق ويجاهرون بها.
ربما يكمن العزاء في أن شعبية بلير في الحضيض، وأن كثيراً من البريطانيين يطاردونه في الشارع، ويضربونه بالأحذية ويحمّلونه مسؤولية مقتل أبنائهم في العراق وأفغانستان وغيرهما، بسبب كذبته التي جرّت شبه "إجماع" على مغامرة العراق.
وما كانت مغالطات بلير لتمر دونما نقاش وتفنيد، وهو ما تصدى له كثيرون، ومن بينهم سيوماس ميلن في مقال له في صحيفة "الغارديان" يوم الخميس، بعنوان "الحرب على الإسلام لا تنتج سوى الكراهية والعنف"، فاضحاً فيه انسجام آراء بلير مع مناورات رئيس الوزراء الحالي دافيد كاميرون، "المضرّة على المستويين الداخلي والدولي".
ويَخْلُصُ سيوماس ميلن إلى أن خطاب بلير يُؤسّس لعودة المحافظين الجدد إلى الساحة مرة أخرى، عن طريق عودة عقيدتهم المتمثلة في الدعوات إلى التدخل العسكري في الخارج، وهي سياسة تنطلق من عقيدة صهيونية مسيحية، وبين ممارسة المكارثية والاضطهاد في الداخل.
ولم يكن سيوماس ميلن يحتاج إلى كثير من البراهين على خطورة تفكير بلير. فالرجل لا يعترف بأخطائه أبداً. فها هو العراق "المُحرَّر" لا يزال بؤرة صراع ولا يزال المتطرفون ينشطون فيه. وحرب بوش الصليبية لم تنجح في إرساء سلام وديموقراطية دائمين في العراق. ثم إن بلير، من دون خجل، ينحاز للدكتاتورية العسكرية في مصر ضد الشعب الذي أسس أول ديموقراطية بعد خلع مبارك. ويطالب باعتقال كل من يفكر بدعم ثورة الشعب السوري أو جمع التبرعات لمشرّديه.
يريد بلير أن يُخفي الدور الذي أدّاه سنة 2001 وما بعدها، في تفريخ كل هؤلاء المتطرفين، ويُريد منا أن نُصدِّقه حين يتحدث عن الضرورة القصوى لمحاربتهم.