طوارئ مصر بعد مجزرة الكنائس: أجندات سياسية بحجة الأمن

11 ابريل 2017
غضب عارم عمّ الشارع بعد تفجير الكنيستين (العربي الجديد)
+ الخط -

يُتوقع أن تعيش مصر طويلاً على وقع تبعات جريمة تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية في أحد الشعانين الدامي. ويُستشف من الإجراءات التي اتخذتها السلطات رداً على الاعتداء الذي أوقع مئات الضحايا، بين قتلى وجرحى في صفوف المصلين وقوات الأمن، نزعة لاستغلال مرحلة الطوارئ كي لا تقتصر القرارات التي سيتم تمريرها في هذه المرحلة على الشق الأمني الاستخباري الخاص بالتنظيمات الإرهابية، وربما لتمرير مجموعة إجراءات سياسية واقتصادية واجهت السلطة مشاكل في إقرارها في السابق. هذا الأمر بدأت مؤشراته تظهر أمس، مع موافقة البرلمان المصري نهائياً على تعديل المادة العاشرة من قانون التظاهر، إضافة إلى إحالته اتفاقية "تيران وصنافير" للمناقشة في لجنته التشريعية.
وتبدو مصر على موعد مع حالة طوارئ طويلة الأمد بعدما أعلنها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في جميع أنحاء البلاد لمدة 3 أشهر ودعا مجلس النواب، الذي تسيطر عليه أكثرية نيابية تابعة له، للموافقة على هذا الإعلان، في ظل نص دستوري يسمح بتجديد تمديدها إلى أجل غير مسمى، بشرط موافقة المجلس على ذلك كل 3 أشهر بأغلبية ثلثي أعضائه، وهو أمر يسير بالنسبة للأكثرية النيابية المسماة "دعم مصر" والتي يتحكم فيها السيسي من خلال مدير مكتبه عباس كامل ودائرته الاستخباراتية - الرقابية. وأجّل البرلمان التصويت على حالة الطوارئ، أمس، إلى جلسته المقررة اليوم، الثلاثاء، لحين حضور رئيس الحكومة، شريف إسماعيل.
ولم يسبق للبرلمان على مدار 3 سنوات ونصف تقريباً أن اعترض أو جادل في مسألة تمديد حالة الطوارئ المعلنة في شمال شرق سيناء منذ أغسطس/ آب 2013، وذلك في المناطق التي تشهد مواجهات عسكرية بين الجيش المصري وتنظيم "ولاية سيناء" التابع لـ"داعش"، وهو ما ينبئ بسهولة تمرير تمديد حالة الطوارئ كلما رغب السيسي في ذلك، لا سيما أن عدداً من الأحزاب الرئيسية المشاركة في الأكثرية النيابية سبق أن دعا لإعلان حالة الطوارئ.


إحكام السيطرة
إلا أن فشل حالة الطوارئ في إخضاع تنظيم "ولاية سيناء" أو تحجيم دوره في مناطق نفوذه حول العريش والشيخ زويد، يؤكد أن إعلان حالة الطوارئ على مستوى الجمهورية في الوقت الحالي لا يستهدف فقط التصدي للهجمات الإرهابية التي ضربت في الآونة الأخيرة قلب الدولة في العاصمة القاهرة أو المحافظات الرئيسية كالإسكندرية والغربية، لكنها تستهدف في المقام الأول إحكام سيطرة السيسي على المشهدين الأمني والسياسي، وتصوير الأمر للعالم وكأن مصر باتت في حالة حرب شاملة مع الإرهاب، ما يستوجب وقوف القوى الدولية إلى جانبها، وعدم معارضتها للإجراءات، مهما كان نوعها، حتى وإن كانت قمعية.
فمن الناحية العملية، لا تضيف حالة الطوارئ الكثير لما هو قائم في مصر، بل إن هناك ضوابط وضمانات موجودة في قانون الطوارئ، الذي بدأ تطبيقه بإعلان الحالة، لا تراعيها الأجهزة الأمنية في الحالة العادية الراهنة، وعلى رأسها الاعتقالات وتفتيش المساكن والأشخاص وتوسيع دائرة الاشتباه. فهذه الأمور تحوّلت إلى ظاهرة وأمر واقع في مصر على الرغم من مخالفتها للنصوص الدستورية، إذ تعدّدت حالات الاختفاء القسري وإطالة فترة الحبس قبل العرض على النيابة من دون إخبار المعتقلين بالاتهامات الموجهة إليهم. أما في قانون الطوارئ، فقد ألغت المحكمة الدستورية من الأساس النص الذي كان يسمح بالاعتقال وتفتيش المساكن والأشخاص، كما أن القانون نفسه يشترط إبلاغ المتهمين بالتهم المنسوبة إليهم وإحالتهم للنيابة المختصة خلال أسبوع، بما مفاده أن الحالة الراهنة تتجاوز في سلطاتها الأمنية حالة الطوارئ.
كما لم يكن السيسي في حاجة لإعلان حالة الطوارئ ليتمكن من فرض حظر التجوال في مناطق معينة لفترات محددة، أو ليتمكن من إخلاء مناطق معينة من المساكن والسكان، لأن قانون مكافحة الإرهاب الذي أصدره في أغسطس/ آب 2015 يسمح له بذلك بعد موافقة مجلس النواب، وهي من الإجراءات المهمة المنصوص عليها في قانون الطوارئ ومن المنتظر إعلانها فور موافقة المجلس على إعلان حالة الطوارئ.
لكن الإجراءات الرئيسية التي سيتمكن السيسي من تنفيذها في حالة الطوارئ، ليس لها علاقة البتة بمكافحة الإرهاب ميدانياً، بل تصب في خانة إحكام السيطرة على المجتمع. أولاها ربما تكون إعادة دوائر محكمة أمن الدولة طوارئ التي ستختص بكل الجرائم المرتبطة بحالة الطوارئ وكذلك الجرائم التي يرى السيسي ضرورة في إحالتها لها. وينص قانون الطوارئ على تحصين الأحكام الصادرة من هذه الدوائر من الطعن، وبالتالي فهي تصدر أحكام الإدانة أو البراءة من درجة واحدة نهائية، ولا يجوز عرض قضاياها على محكمة النقض.
ويُرجح مصدر قضائي في محكمة استئناف القاهرة أن يكون هذا الأمر هو الهدف الرئيسي من إقرار حالة الطوارئ، في ظل عدم رضا السيسي عن الوتيرة التي تسير بها المحاكمات الجنائية، إذ يراها بطيئة وذات إجراءات معقدة ولا تحقق الزجر المطلوب للإرهابيين، على الرغم من سرعة وتشدد الأحكام التي تصدر في قضايا التظاهر والعنف والانتماء لجماعة "الإخوان المسلمين".
ويوضح المصدر أن السيسي على ما يبدو فَقَد الأمل في أن يوافق مجلس القضاء الأعلى أو مجلس الدولة على مخالفة المبادئ الدستورية التي تُعطّل، في نظره، المحاكمات، خصوصاً مسألتي ضرورة سماع الشهود وعدم تطبيق الأحكام الغيابية من دون مثول المتهم أمام المحكمة لدى القبض عليه، وهنا يأتي دور دوائر أمن الدولة العليا طوارئ التي تصدر أحكاماً لا معقب عليها، وبالتالي فسيكون من السهل مخالفة المبادئ الدستورية في القضايا المتداولة أمامها.




التحكّم بالإعلام
أما الإجراء الثاني الذي تتيحه حالة الطوارئ للسيسي، فهو التحكم الكامل في وسائل الاتصال والإعلام التي يجاهر دائماً بغضبه منها على الرغم من موالاتها له بشكل شبه كامل، إذ أصبح له الآن أن يأمر بمراقبة الرسائل أياً كان نوعها ومراقبة الصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم وكل وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإغلاق أماكن طباعتها.
وعلى الرغم من عدم إعلان حالة الطوارئ على مستوى الجمهورية في السابق، فإن ظاهرة مراقبة الصحف لم تختف، إذ يتواجد ممثلون لأجهزة أمنية وسيادية في المطابع الرئيسية المملوكة للدولة. وحدث في عهد السيسي أن تم تعطيل إصدار بعض الصحف لعدة ساعات لحين تعديلها بما يتماشى مع تعليمات الرقابة. لكن الأمر حالياً أصبح مقنناً بشكل يسمح للنظام بمصادرة الصحف المخالفة لتعليماته علناً، ويبدو أن مصادرة عدد الأمس من صحيفة "البوابة"، الموالية للنظام والمملوكة للنائب عبدالرحيم علي القريب من بعض الأجهزة الأمنية لمجرد مطالبته بإقالة وزير الداخلية، هو جرس إنذار شديد اللهجة لباقي الصحف الخاصة.
كما سيتمكن النظام من التوسع العلني في مراقبة الرسائل الشخصية ووسائل الاتصال الإلكترونية، علماً بأن مشروع المراقبة الخاص بوزارة الداخلية كان قد تم الإعلان عنه رسمياً، ولم تتراجع عنه الدولة، في ظل مؤشرات لجهود أمنية أخرى لاختراق مواقع التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني للنشطاء السياسيين والإعلاميين والمعارضين.
ويتوقع مصدر شرطي في مصلحة الأمن العام أن يتم تنفيذ آليات الرقابة الجديدة على وسائل الإعلام بصرامة، بما في ذلك فرض سيطرة الدولة على المواقع الإلكترونية الخاصة العاملة في مجال الصحافة، والتي يعيبها جميعاً أنها غير مرخصة وغير معترف بها لدى المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحافيين، ما سيعرّض العاملين فيها لخطر البطالة، مشيراً إلى أن التحكم في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي هو أحد الأهداف الرئيسية لإعلان حالة الطوارئ الآن.
وبعيداً عن الإجراءات التي بات مسموحاً للسيسي اتخاذها بموجب قانون الطوارئ، يقول مصدر حكومي في وزارة العدل إن الفترة المقبلة ستشهد تصعيداً تشريعياً غير مسبوق من قبل النظام الحاكم والأكثرية النيابية التابعة له لتمرير كل المشاريع التي أثارت غضباً في أوساط عديدة خلال الفترة الماضية، وعلى رأسها مشروع قانون تنظيم الجمعيات الأهلية، ومشروع قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية، بما يسمح لرئيس الجمهورية باختيارهم، ومشروع تعديل قانون الأزهر بما يفرض سيطرة الدولة على المشيخة ويضع موعداً لتقاعد شيخ الأزهر بدلاً من بقائه في منصبه مدى الحياة.
ويؤكد المصدر أن الإعلام الرسمي والموالي له لن يتعاطف بعد اليوم مع أي معارضين لإجراءات توسع سلطة رئيس الجمهورية، حتى إذا كان على حساب مؤسستي القضاء والأزهر، خصوصاً مع ما توجّهه دائرة السيسي للمؤسستين من اتهامات وانتقادات بعدم تحقيق العدالة الناجزة الرادعة أو بعدم تجديد الخطاب الديني، إلى الحد الذي أعلن معه السيسي عن إنشاء ما يسمى بـ"المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب"، ليضع بنفسه قواعد تصحيح الخطاب الإعلامي والديني والتعامل القانوني مع الإرهاب المحتمل.
ويضيف المصدر القريب من دوائر التشريع في الحكومة، أن فرصة إجراء انتخابات رئاسية تبدأ خطواتها الفعلية مطلع العام المقبل "تبدو الآن متراجعة للغاية"، مشيراً إلى أن هناك أجهزة تدفع بشدة في اتجاه إدخال تعديلات دستورية واسعة تشمل زيادة الفترة الرئاسية الواحدة إلى 6 سنوات أو أكثر، وتسمح لرئيس الجمهورية باتخاذ تدابير استثنائية من دون الرجوع لمجلس النواب، مؤكداً أن هناك شخصيات نافذة في دائرة السيسي تردد أن "الدستور الحالي منتهي الصلاحية ويجب تعديله".


إثقال كاهل الجيش
أما على الصعيد الأمني والميداني، فسيكون المستجد الأساسي نزول الجيش لحماية المنشآت الحيوية والحكومية والدينية إلى جانب الشرطة، وبالتالي تحويل محيط هذه المنشآت إلى مناطق عسكرية يسري على من يتم ضبطه فيها قانون القضاء العسكري وما به من جرائم وعقوبات استثنائية.
وبحسب مصدر مسؤول في مجلس الوزراء، فإن المناطق العسكرية المختلفة تلقت تعليمات بالتواجد المكثف حول دواوين المحافظات والوزارات والهيئات الحكومية وكل الكنائس وبعض المساجد الكبرى والجامعات ومحطات الكهرباء والمياه ومصافي البترول والموانئ، وذلك في كل محافظات الجمهورية، بنسب تأمينية متفاوتة بحسب تقدير لجنة تنسيقية مشكّلة من قائد المنطقة العسكرية ومدير أمن المحافظة وممثلي الاستخبارات والأمن القومي.
ويشير المصدر إلى أن "الاعتماد الرئيسي في التأمين سيكون على أفراد العمليات الخاصة، وبدرجة أقل على أفراد الحراسات والمشاة، وذلك حسب الحاجة"، وهو ما يعكس انتشاراً مكثفاً للجيش بعدد ضخم من المجندين والضباط قد يربو على 40 ألفاً لحماية المنشآت فقط، من دون حساب أفراد الجيوش والكتائب المقاتلة، وهو ما سيتسبب في إثقال كاهل الجيش المصري المشغول في الأساس بعمليات حربية في شمال شرق سيناء وعمليات تأمين واسعة النطاق ومستمرة على الحدود الغربية والجنوبية.
ويعتبر المصدر أن إعلان حالة الطوارئ في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الحالية يحمل رسائل سياسية للخارج قبل الداخل، مفادها سيطرة السيسي على الأوضاع في البلاد وتبعية الجيش والشرطة المطلقة له، وخطورة ما تواجهه مصر في حربها على الإرهاب، وأن النظام كان متماسكاً طوال عامين ونصف العام من دون إعلان حالة الطوارئ.