طه حسين في مخيم رفح

29 مارس 2015
فوتوغرافيا: تيسير البطنيجي
+ الخط -

لم أفهم بداية معنى الكلمات التي كنت أسمعها تشخر في فوهة مكبّر صوت محمول على سيارة لا تكفّ عن الضجيج. وبعد الاستفسارات الملحّة والمدقِّقة التي كنت أنهك بها والديّ، عرفت بأن هؤلاء هم جنود من الجيش الإسرائيلي، ويمنعوننا من الخروج من البيت.

منذ تلك اللحظة، دخل قاموسي مصطلح "ممنوع التجول"، وعرفت بأن الخروج من البيت ممنوع. وبما أن مدارسنا مغلقة، فدكانة أم ديَّاب المكدسة بـ"شعر البنات" و"راس العبد" وبسكويت "الويفر" مغلقة، وكذلك بيت بنت الجيران مغلق، وحتى البحر مغلق.

بيتنا في مخيم رفح للاجئين يقع على تقاطع شارعين، من الشوارع الكبيرة نسبياً. ووفق هذا الموقع، ستكون شبابيكه مرمى لأي شيء ممكن أن تقذفه آليات هؤلاء الجنود.

التصقت ذكرى أيام منع التجول تلك بأجواء مسلسل "الأيام"، حيث العتمة والكآبة التي كانت تسكن حياة طه حسين موازية لكآبتي حينها؛ شكلُ البيت ولون جدرانه والضوء الأصفر الخافت للمصابيح، والأشياء التي كنت أراها بنفس الدرجة من الظل والنور في كل الأوقات، والتي أثارت فيّ تساؤلاً: ماذا يعني أن تكون أعمى وقد خُلقت لترى؟

كانت أيام "منع التجوّل" تطول أحياناً، ففي إحدى المرّات، تواصل حتى 40 يوماً؛ ولم يكن بوسعي الهروب من هذا الاختناق سوى إلى المكتبة: حيّز صغيرٌ في نهاية البيت، تملؤها رائحة الرطوبة المختلطة برائحة الحبر والورق القديم وسم الفئران، ولكنها لم تكن مطلة على الشارع، وهذا الأهم.

هنا بدأت أقرأ على مضض، سيما وأن التلفزيون لم تكن فيه سوى قناة مصر الأولى والثانية المليئتان بالمسلسلات الممللة غالباً، باستثناء مسلسل "الأيام" الذي لم أضع حلقة واحدة منه، مثل عمتي جازية، التي كانت تبكي كلما شاهدت حلقةً منه وتقول: "مسكين يا طه". لكن في الحلقات الأخيرة عندما بدأت مرحلة تشكيكه بالدين والأزهر، غيّرت رأيها: "وَلْ.. الله ينكبك يا طه هذا كيف لو إنك مش أعمى!" ومن بعدها امتنعَت عن مشاهدته.

القناة الثالثة والأخيرة في تلفزيوننا كانت "التلفزيون الإسرائيلي" الناطق بالعربية، والذي كنا ننتظر فيه الأخبار المصورة على السابعة والنصف مساءً بـتوقيت "أورشليم القدس" لنعرف عدد الشهداء في هذا اليوم، وعلّنا نسمع أي خبر عن نهاية منع التجول هذا.

من أكثر تفاصيل أيام الانتفاضة الأولى رسوخاً في ذاكرتي؛ لحظات الفجر، عندما كانت تختلط الأصوات الآتية من كل صوب: صوت الآذان الآتي من رفح المصرية التي يفصلها عنا سياج حدودي شائك آنذاك، وصوت فايزة أحمد التي يعشقها أخي الكبير نهرو، وصوت فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب اللذين لم يسكتا في مذياع أبي، وكلما انتهت أغنية لأحد منهما لعن "العيشة" بجملة مركّبة تختصر الوضع المركّب الذي نعيشه، وحرك المؤشر بحثاً عن أغنية أخرى.. وصوت عبد الحليم تارة وأم كلثوم تارة أخرى من صوب فراش أخواتي في الغرفة المجاورة، وصوت لجندي بلا وجه يسوق عربة تشخر نغمة شاذة بلغة عربية مكسرة: "منع التجول ساري المفعول حتى إشعار آخر.. واللي بيتلع من بيتو بيعرض نفسو للخطر.. ناموا"!

كل هذه الأصوات ما زلت أسمعها الآن وأنا أكتب هذه الكلمات في مرسمي في باريس، والتي ستبقى تبثّ في روحي مقاومة سارية المفعول.. أيضاً حتى إشعارٍ آخر.


(باريس)

دلالات