طهران تنشد التفاهم مع "الشيطان الأكبر" جهراً
لم يخف المسؤولون الإيرانيون، وامتداداتهم من إعلاميين ومحللين و"خبراء" استراتيجيين، غبطتهم، لمجرد أن أقرّت لهم واشنطن، بعد تمنع، بدورٍ تقوم به بلادهم في الحرب، التي أعلنتها إدارة باراك أوباما على تنظيم الدولة الإسلامية، على الرغم من أنه لم تتضح بعد ماهية هذا الدور. وكان الرئيس حسن روحاني قد طلب، علناً ومباشرة، في القمة الرابعة عشرة لمنظمة شنغهاي للتعاون، (عقدت مطلع سبتمبر/ أيلول الجاري في العاصمة الطاجكية دوشانبيه)، بأن تكون بلاده جزءاً من التحالف الدولي ضد "داعش"، والذي يتطلب القضاء عليه، كما قال روحاني، "تعاوناً إقليمياً ودولياً". البديل هو جعل المهمة أكثر تعقيداً بالنسبة إلى واشنطن، كما تبدّى عندما أعطت طهران إشارة البدء لحلفائها العراقيين لمباشرة انتقاد التدخل العسكري الغربي. طموح إيران، في هذه المرحلة، يتمثل في التفاهم على طبيعة الدور، الذي أقرت لها به واشنطن في الحرب على "داعش"، وجعل الاعتراف به مدخلاً لتفاهم أشمل، يتعلق بمجمل أدوارها في الإقليم، وهو أمر ما فتئت تسعى إليه منذ عقود، تارة من بوابة التفاوض على ملفها النووي وأخرى من بوابة "الحرب على الإرهاب".
منذ عام 1979، بنى النظام الإيراني شرعيته في الداخل، وبين مواليه في الإقليم، على العداء للولايات المتحدة وسياساتها. لذلك، لا ينبغي أبداً التشكيك في وجود حالة من التنافر بين طهران وواشنطن، منذ توقفت إيران عن تأدية دور الحارس للمصالح الأميركية في منطقة الخليج، بعد سقوط نظام الشاه. فمنذ ذلك الحين، تحولت إيران إلى منافس يسعى إلى الهيمنة الإقليمية، وبما يتعارض في أحيان كثيرة مع جوهر المصالح الأميركية، التي كانت، وما زالت، تقتضي منع أية قوة، إقليمية أو دولية، من السيطرة على منطقة الخليج بثرواتها النفطية الهائلة وموقعها الجيوبولتيكي المهم.
لكن، التناقض مع واشنطن لم يخف يوماً رغبة إيرانية دفينة في التوصل إلى تفاهم معها، تعترف بموجبه لنظام الجمهورية الإسلامية، بما كانت تعترف به لنظام الشاه قبل الثورة من مكانة ونفوذ إقليمي، لا يتعارض، بالضرورة، مع جوهر المصالح الأميركية، بل قد يؤمنها. لذلك، وعلى الرغم من كل الضجيج الأيديولوجي، الذي ينضح به خطاب النخبة الإيرانية، والاتهامات التي تكال إلى الخصوم، سواء في الداخل أو الخارج، بالتعامل مع واشنطن، إلا أن التواصل السري الأميركي-الإيراني لم ينقطع، حتى في أكثر المراحل تأزماً في العلاقات بين البلدين، وفي أكثر الفترات "ثورية" في تاريخ الجمهورية الإسلامية، ليدلل على إعجاب متبادل، ورغبة مشتركة في استعادة الدفء المفقود.
ففي الشهور الأولى لاندلاع الثورة في إيران، أرسل الرئيس جيمي كارتر، وكان قد بدأ يفقد الأمل في قدرة الشاه على مواجهة غضب الشارع والاستمرار في الحكم، وزير العدل في إدارته، رمزي كلارك، للقاء آية الله الخميني في باريس، وعرض عليه الاعتراف بحكومة الثورة واحترام الاتفاقات بين طهران وواشنطن، بما فيها عقود التسليح. وبالفعل، جرى استئناف صادرات الأسلحة الأميركية إلى إيران، وذلك كبادرة حسن نية تجاه حكومة الثورة. كما أفرجت أميركا عن قطع غيار عسكرية أخرى مهمة جرى شحنها إلى إيران، عن طريق مدريد. وحتى اقتحام سفارتها في طهران، ظلت أميركا تراهن على الاحتفاظ بإيران حليفاً، عبر تأييدها حكومة مهدي بازرجان، أول رئيس وزراء إيراني في عهد الجمهورية، حيث جرى ترتيب اجتماع له، في الجزائر، مع مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي، زبغينو بريجنسكي. لكن اقتحام السفارة واحتجاز دبلوماسيين أميركيين رهائن في طهران، ثم طرد بازرجان في خضم الصراع بين قوى الثورة، بدّد كل الآمال بإنقاذ العلاقة بين الطرفين.
على الرغم من ذلك، ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، مالت إدارة الرئيس كارتر إلى تأييد إيران ضد العراق، الذي كان، في ذلك الوقت، حليفاً لموسكو، بيد أن الفكرة لم تتطور بسبب أزمة الرهائن والخوف من ردود فعل الرأي العام في الولايات المتحدة. ثم عادت إدارة الرئيس ريغان، التي خلفت كارتر إلى دراسة الفكرة، بعد أن أطلقت طهران سراح الرهائن وردت واشنطن بالإفراج عن صفقة أسلحة جديدة لها، كما زود البنتاغون إيران بصور التقطتها الأقمار الصناعية الأميركية تبين مواقع وتحشدات القوات العراقية على خطوط المواجهة الرئيسية. وبسبب الخشية من افتضاح العلاقات العسكرية مع طهران، أوكلت واشنطن ملف تسليح إيران إلى إسرائيل، لكن التحالفات تغيّرت عندما بدأت كفة إيران ترجح خلال معارك عامي 1982-1983، فزار دونالد رامسفيلد مبعوثاً عن إدارة ريغان بغداد، ومهّد لعودة العلاقات بين البلدين في 1984، هذا في وقتٍ ظلت فيه إسرائيل تزود إيران بالأسلحة الأميركية حتى انكشف أمرها عام 1986 (إيران غيت).
بعد انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية ووفاة الخميني، حاول الثنائي خامنئي-رفسنجاني تنشيط قنوات الاتصال مع الأميركيين، لكن هؤلاء لم يعودوا مهتمين كثيراً باستعادة إيران بسبب انتهاء الحرب الباردة، واعتماد سياسة الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران. بيد أن هذا لم يمنع من تجدد المحاولة مع الرئيس خاتمي، الذي خاطب الشعب الأميركي عبر قناة سي إن إن في أغسطس/ آب 1998، مركزاً على "المشتركات الكثيرة بين الشعبين"! في حين ردت وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، بما يشبه اعتذاراً عن دعم بلادها الانقلاب على حكومة رئيس الوزراء، محمد مصدق، عام 1953 وإعادة الشاه إلى الحكم. لكن هذه المحاولة لم تتطور بسبب اشتداد الخلاف بين النخب الإيرانية الحاكمة بشكل كاد يهدد موقع مرشد الجمهورية، الذي عاد إلى استخدام العداء لأميركا سلاحاً في وجه خصومه الداعين إلى تقارب مع الغرب.
استغلت إيران أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، لتقدم نفسها لإدارة بوش الابن حليفاً في مواجهة "التطرف السني" الذي ضرب واشنطن ونيويورك، فسمحت للأميركيين باستخدام أجوائها في غزو أفغانستان، لا بل ساهمت في نقل جنود أميركيين إلى شمال أفغانستان، لكن إدارة بوش خيبت أمل الإيرانيين، عندما ردت لهم الجميل، بضمهم إلى محور الشر إلى جانب العراق وكوريا الشمالية. ولم يمنع هذا الأمر طهران من تقديم المساعدة مجدداً في أثناء التحضير لغزو العراق، فجرى نقل آلاف من عناصر ميليشيا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، ليمهدوا للأميركيين دخول بغداد، قبل أن يعيثوا فيها فساداً.
أخيراً، كان لافتاً مقدار السرية، التي أحاط بها المسؤولون الإيرانيون والأميركيون اجتماعاتهم، التي كانت تستضيفها سلطنة عمان، منذ وصول الرئيس أوباما إلى الحكم عام 2009، وتكثفت، في الشهور الأخيرة من العام المنصرم، لتسفر عن التوصل إلى اتفاق جنيف النووي المؤقت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إذ لم يعلم بهذه الاتصالات حتى أقرب حلفاء واشنطن، أما الروس فقد أصيبوا بما يشبه الصدمة، عندما جرى الكشف عن حقيقة هذه الاتصالات ومدتها. الآن، وبعد أن صعدت داعش، وكادت تذهب بكل ما بنته طهران في العقد الماضي، لم يعد الإيرانيون متحرجين من طلب التفاهم مع الشيطان الأكبر جهراً، بعد أن كانوا ينشدونه سراً، وهو ما سعى إليه وزير الخارجية، جواد ظريف، في اجتماعه مع نظيره الأميركي، جون كيري، في نيويورك قبل أيام.