طمأنينة غير مدروسة

08 يونيو 2020

(معمّر مكي)

+ الخط -
ما أن أعلنت الجهات الحكومية الأردنية المختصة قرار فك الحظر الذي دام نحو ثلاثة أشهر، وأعادت نشاط قطاعات حيوية تعطلت، حتى عمّت الفرحة ومشاعر الارتياح بعد طول ضيق. وتبادل الأردنيون التهاني بتحرّرهم من نير دقات الساعة غير الرحيمة الكفيلة بإعادتهم في تمام السابعة مساء إلى بيوتهم في وقت مبكر، وبالتحكّم في إيقاع حراكهم الاجتماعي المسائي، حيث يحلو السهر وارتياد المطاعم والمقاهي ودور السينما والحدائق العامة والتجوّل في الشوارع، سعيا إلى نسمة هواء باردة في ليالي الصيف القائظ التي تجعل المكوث بين جدران البيوت ضربا من العذاب وسببا مباشرا للعنف الأسري. لا يصدق كثيرون أنه بات في الوسع استخدام السيارات من دون الحاجة إلى تصريح رسمي، ومن دون الخوف من التعرّض لغرامات مالية كبيرة وسحب السيارة، وأحيانا التعرّض لعقوبة السجن. صار في مقدور الأردني والمقيم والزائر تشغيل محرك السيارة متى أراد، بعد أن تم إلغاء العمل بحركة السيارات، بحسب أرقامها الفردي والزوجي. كما انتعش أمل الطلبة والمغتربين بعودة قريبة إلى الوطن، ضمن إجراءات أقل تعقيدا، وبكلف مادية أكثر رحمةً، وقد عانوا ما عانوه في الغربة من حجْر وإحباط وقلة موارد وتسريح من العمل، ومعاملة عنصرية في أحيان كثيرة.
الحال غير القابل للدوام في طريقه إلى التبدّل. وقد فرضت مظاهر الانفراج والتحرّر من قبضة كورونا نفسها على العالم في أكثر من دولة. وعلى الرغم من الضائقة المالية والتعثر الاقتصادي والعجز الحكومي عن التصدّي لتبعات تلك المرحلة المظلمة، غير أن الناس، على اختلاف مشاربهم، يحاولون ما أمكنهم تأجيل مشاعر القلق والخوف من الغد، فيتشبثون باللحظة الراهنة، ويتذوقون بنهم ولذة تفاصيل لحظة الحرية التي طال انتظارها، حتى أنهم يفرحون بالأزمة المرورية، كونها تأكيدا على عودة الحياة بكامل صخبها وفوضاها، ويخططون لزيارات مؤجلة للأهل والأصدقاء، ويحلم كثيرون بالسفر بعيدا، إمعانا منهم في قنص لحظة الحرية المرتجاة حتى حدّها الأقصى. يحتاج الأمر بعض الوقت، كي يُعاد تأهلينا لمواجهة الحياة من جديد، ولا بد من تأمل أبعاد تجربتنا المرعبة مع كورونا التي ينبغي أن تظل ماثلةً في أذهاننا حين واجهنا صاغرين فكرة الموت الموحشة، واحتملنا مرغمين العزلة التي تفتك بالروح.
علينا أن لا ننسى أننا لم نحظ بعد بخاتمةٍ لائقة، بل ظلت النهاية مفتوحة على احتمالات شتى.. تُرى هل ستعود الجائحة بصورة أكثر شراسة كما يقال، أم أنها ستتلاشى رويدا رويدا لتصبح ذكرى سيئة، تقشعر أبداننا حين نتذكّرها قائلين "تنذكر ما تنعاد"؟ ولأن غدا بظهر الغيب، كما قال أحمد شوقي، فليس في مقدورنا في اليوم الذي لنا سوى التصرّف بحذر وعقلانية، لابد من ترشيد اختلاطنا الاجتماعي، وحصره في نطاق ضيق، والإصغاء للمختصين في هذا الشأن، وهم الأقدر على تقدير الموقف. وعلينا دوما ابتكار وسائل العيش ضمن الممكن، وتفعيل قدرتنا الغريزية على التكيف مع متغيرات الحياة وتقلباتها الكثيرة. ولنشتغل على تعزيز صلابتنا الداخلية، وتكثيف إحساسنا بمعاناة الأقل حظا.
لا ينبغي أن ننسى في غمرة الفرح بالحرية تلك الأيام العصيبة التي اجتزناها، ولنتذكّر دوما الجانب الجمالي فيها، حين اقتربنا من الطبيعة أكثر، وارتاحت أمنا الأرض من عبثنا غير المسؤول، واقتربنا من عائلاتنا، واكتشفنا أننا مقصّرون بحقهم، وأن لهاثنا خلف تحقيق ذواتنا غالبا ما يكون على حساب أقرب الناس منا وأكثرهم حاجة إلينا. لنفرح إذاً بعودة الحياة إلى طبيعتها. هذا حقنا المشروع، ولكن من الحكمة أيضا أن تبقى ذاكراتنا يقظة متنبّهة، فثمة فيروسٌ ملتبسٌ ضئيلٌ طليقٌ متربصٌ للفتك بقادم أيامنا، فيما لو جنحنا إلى الطمأنينة غير المدروسة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.