بشكلٍ غير مسبوق، تكثّفت في العامين الأخيرين خطط وجهود الاحتلال الإسرائيلي الهادفة إلى تشجيع مزيد من الطلاب المقدسيين على الالتحاق بالجامعات والكليات الإسرائيلية. وفي مقدّمة باذلي هذه الجهود، الثالوث المؤلّف من وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية والمجلس الإسرائيلي للتعليم العالي وبلدية الاحتلال في القدس، بالتعاون والتنسيق الكامل مع الجامعة العبرية بشكل أساسي وغيرها من الجامعات والكليات الإسرائيلية.
في حين يبدو للبعض أنّ هذه الجهود تخدم ظاهرياً مصلحة الطلاب المقدسيين وتساهم في تحسين مستقبلهم الأكاديمي والمهني، إلا أن عواقبها على صعيد الوعي الجمعي والوطني غير مأمونة كلياً، خصوصاً على المدى البعيد. كذلك فإنّ دوافعها (من الجانب الإسرائيلي) هي في الأساس دوافع أمنية بحتة.
يمكن استقراء هذه الدوافع الأمنيّة بالرجوع إلى عام 2013، عندما أنشئت لجنة إسرائيلية تضمّ ممثلين عن جهات حكومية إسرائيلية عدّة، منهم مدير مكتب رئيس حكومة الاحتلال وممثلين عن جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) والشرطة وبلدية الاحتلال وكذلك المستشار القضائي لحكومة الاحتلال. اجتمع هؤلاء بهدف وضع خطّة أمنية لتعميق السيطرة على القدس، وذلك بعد نشر إحصاءات تظهر ارتفاعاً ملموساً في حالات إلقاء الحجارة على المستوطنين وتصاعداً في حدة المواجهات مع شرطة الاحتلال.
نتيجة هذه الاجتماعات، أعلنت حكومة الاحتلال في 29 يونيو/حزيران 2014، قبل أيام قليلة من اندلاع "هبة الشهيد أبو خضير" في مدينة القدس، مصادقتها (بموجب قرار رقم 1775) على ما أسمته خطة "تطوير اقتصادي واجتماعي" شاملة تستهدف شرق القدس، تمتد لخمسة أعوام (2014-2018) وبتكلفة تصل إلى 295 مليون شيكل إسرائيلي (78 مليون دولار أميركي). ومن ضمن هذه الخطّة ذات الدوافع الأمنية، خصصت حكومة الاحتلال لقطاع التّعليم في القدس 47 مليون شيكل (أكثر من 12 مليون دولار)، توزّع لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي: تشجيع تبني المنهاج الإسرائيلي في المدارس، وحوسبة بعض المدارس، وتخصيص مليونَي شيكل (528 ألفاً و513 دولاراً) لقطاع التعليم العالي الإسرائيلي وتشجيع المقدسيين على الانخراط فيه.
يذكر نصّ قرار حكومة الاحتلال أن الافتراض الأساس الذي بنيت وفقه هذه الخطة، يعتمد على علاقة قوية بين حجم ومستوى "العنف" الممارس من قبل فلسطينيي القدس وبين مستوى الأوضاع المعيشية في أحيائهم. المعادلة الأمنية الإسرائيلية تفترض هنا أنه في حال تحسّن مستوى المقدسيين اجتماعياً واقتصادياً، فإنّ من شأن ذلك جعلهم مرتبطين أكثر بالكيان الإسرائيلي، بالتالي عدم لجوئهم إلى أي مواجهة معه. وهو ما يعني في المحصّلة، تحييدهم سياسياً وأمنياً.
وهذه الخطة التي تشمل برامج عديدة في قطاعات التعليم والاقتصاد والخدمات البلدية وغيرها، تأتي بهدف تعزيز السيطرة الأمنية الإسرائيلية على مدينة القدس، وقمع أي بوادر مواجهة مع الاحتلال من طرف المقدسيين، عن طريق إغراقهم في برامج تدّعي تحسين مستوى معيشتهم الاقتصادية والاجتماعية.
كلية تحضيرية
بالعودة إلى موضوع التعليم العالي، وكخطوة أساسية لتنفيذ توصيات هذه الخطة، أعلن المجلس الإسرائيلي للتعليم العالي في مايو/أيار 2015 عن فتح كلية تحضيرية جديدة داخل الجامعة العبرية في القدس، تستقطب في سنتها الأولى 50 طالباً وطالبة مقدسيين، ومن ثم تتوسع تدريجياً.
يُذكر أنّ الجامعات الإسرائيلية عند التحاق طلاب مقدسيين بها - خصوصاً أنّ أكثرهم يحملون شهادات ثانوية فلسطينية لا إسرائيلية - تعمد إلى جعل هؤلاء في تعلّم مواد أساسية تحضيرية قبل بدئهم التعليم الجامعي في التخصصات المختلفة. في هذه الكلية التحضيرية التي استحدثت في العام الدراسي الحالي، يتعلم الطلاب اللغة العبرية ومادة المدنيات الإسرائيلية بالإضافة إلى مواد أكاديمية أخرى قبل مباشرة دراستهم الجامعية. والمختلف في هذه الكلية، أنها خصصت حصراً للمقدسيين بطريقة تلائم "احتياجاتهم"، بحسب تعبير المجلس الإسرائيلي للتعليم العالي.
برامج تشجيعية ومنح كاملة
إلى جانب الإشراف على هذه الكلية، أطلق المجلس الإسرائيلي للتعليم العالي برنامج "الرواد" يعرّف الطلاب المقدسيين من خلاله بالتعليم العالي الإسرائيلي وبالتخصصات المطروحة في الجامعات الإسرائيلية. ويركز البرنامج على تلاميذ الثانوية المقدسيين خلال بحثهم عن جامعات. ويشمل ذلك زيارات دورية لنحو عشر مدارس تابعة لبلدية الاحتلال في القدس، ومن المرشّح ارتفاع عددها في الأعوام المقبلة. خلال هذه الزيارات، يلتقي موظفو هذا البرنامج بالتلاميذ المقدسيين ويشرحون لهم أهمية التعليم العالي وكيفية التسجيل في الجامعات الإسرائيلية وآفاق التعليم فيها. ومن ضمن خطة هذا البرنامج، اصطحاب هؤلاء التلاميذ في جولات على الجامعات للتعرّف عليها عن قرب.
بعد تقريب برنامج "الرواد" ما بين تلاميذ الثانوية والجامعات الإسرائيلية، تستقبل الطالب المقدسي الراغب في الدراسة في الجامعة العبرية خصوصاً، برامج تشجيعية أخرى من قبيل برنامج "صدارة" وبرنامج "جامعة".
برنامج "صدارة" هو الإطار الأكاديمي التشجيعي المرتبط بالكلية التحضيرية الجديدة، من خلاله تقدّم منح مالية للطلاب المقدسيين بقيمة 30 ألف شيكل (نحو ثمانية آلاف دولار). في هذه الكلية التحضيرية اليوم، نحو 50 طالبة وطالباً مقدسيين تلقوا بأكثرهم منحاً دراسية كاملة. كذلك، يتابع نحو 40 طالبة وطالباً مقدسيين دروسهم في الكلية التحضيرية المشتركة مع الأجانب، وقد تلقوا بأكثرهم منحاً مالية مشابهة. هذا يعني أن نحو 90 طالباً مقدسياً يتعلمون مجاناً في الكليتين التحضيريتين، وفي حال قبولهم في الجامعة العبرية سوف توفّر لهم خيارات إضافية للتقديم طلبات منح والحصول على دعم مالي. ويشكل هذا الأمر، بطبيعة الحال، دافعاً وجاذباً لمزيد من الطلاب، خصوصاً في ظلّ الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها أهل القدس.
بالإضافة إلى البرامج الترويجية والمنح، يمكن لمس الجهود الإسرائيلية المتزايدة لاستقطاب المقدسيين إلى التعليم الإسرائيلي العالي، من خلال الوظائف الجديدة التي تستحدث في هذا الإطار. على سبيل المثال استحدث مكتب التسجيل والقبول في الجامعة العبرية مع بداية العام الدراسي الحالي، وظيفة جديدة تتسق مع هذه المخططات، وهي وظيفة "مستشار أكاديمي للطلاب المقدسيين".
الأرقام إلى ارتفاع
بحسب بيانات حصلت عليها "العربي الجديد"، تسجّل أكثر من 150 طالباً مقدسياً في السنة الجامعية الأولى في الجامعة العبرية في القدس للعام الدراسيّ 2015 - 2016 ، بينما كان عدد المسجلين المقدسيين فيها 60 طالباً فقط في عام 2009 - 2010 دراسي. وهو ما يعني ارتفاعاً بنسبة 150% خلال ستة أعوام فقط.
وبحسب البيانات نفسها، بعدما كانت نسبة الطلاب المقدسيين في كلية الطب في الجامعة العبرية 1% فقط في عام 2009 - 2010 الدراسي، أما في عام 2012 - 2013 فقد وصلت النسبة إلى 10%. كذلك، سجّل في كلية هداسا الإسرائيلية، ارتفاع مشابه. وتشير معطيات الكلية إلى ارتفاع بنسبة 10% في عدد المقدسيين الملتحقين بالكلية في السنوات الأخيرة.
من جهة أخرى، وإلى جانب البرامج الإسرائيلية التي تروّج للجامعات الإسرائيلية، توفّر معاهد فلسطينية دورات في اللغة العبرية، وأخرى للتحضير لامتحانات القبول في الجامعات الإسرائيلية. وقد تزايد عدد هذه المعاهد في الآونة الأخيرة.
بمعزل عن المخططات الإسرائيلية، فإن الاهتمام المقدسي المتزايد بالجامعات والكليات الإسرائيلية ينبع في الأساس من أسباب براغماتية. لطالما عانى خريجو الجامعات الفلسطينية المقدسيين من إجراءات بيروقراطية إسرائيلية طويلة في سبيل حصولهم على الاعتراف بشهاداتهم، ومن ثم الحصول على فرص عمل. وهو الأمر الذي جعل البعض يفكر في خيار الجامعات الإسرائيلية، من أجل ضمان مستقبل مهني جيّد، خصوصاً إذا كانوا من خريجي الطب أو التمريض أو المحاماة.
ماذا بعد؟
منى طالبة مقدسية في الجامعة العبرية، تتحدث لـ"العربي الجديد" عن التحاقها بالكلية التحضيرية بعد إنهاء الثانوية العامة. لا تنكر أنّ المنح التي توفر للطالب المقدسي في الكلية التحضيرية هي أحد عوامل الجذب التي تحسم قرار الطلاب للالتحاق بها، خصوصاً مع قلة المنح الدراسية في الجامعات الفلسطينية وتواضعها. وتشير منى إلى الجهود التي تبذلها البرامج الإسرائيلية المختلفة لاستقطاب الطلاب، "أنا وصلت على سبيل المثال إلى الجامعة العبرية، بعدما حصل موظفو أحد هذه البرامج على رقم هاتفي ونتائجي في المرحلة الثانوية من مدرستي. بالتالي، فإنّ هذه البرامج تبذل جهوداً وتقيم تعاوناً مع المدارس التابعة للبلدية من أجل استقطاب الطلاب".
تقول منى إنّ وجودها في الجامعة العبرية هو لغرض الدراسة والتحصيل الأكاديمي في مجال دراستها، لكنها تلفت إلى أنها وجدت نفسها في حاجة ماسة إلى تثقيف نفسها على الصعيد السياسي والوطني والتاريخي "لأتحصّن في وجه أي محاولات لصهينة الفكر أو التأثير على وعيي الوطني. فقد فوجئت من حجم الضخ الفكري المؤسرل الذي يتلقاه الطلاب في بعض الحصص الأكاديمية في الكلية التحضيرية، خصوصاً تلك التي تتحدث عن تاريخ إسرائيل وديمقراطيتها".
وتشعر منى أنّ "ثمّة ما هو غير مطمئن في هذا البرنامج"، وينبع شعورها هذا من كثرة التأكيدات والفعاليات التي تنظمها الكلية لإقناع الطلاب بجدوى استكمال تعليمهم العالي في الجامعة العبرية أو الجامعات الإسرائيلية بشكل عام. وتخبر أنّ ذلك يتمّ من خلال محاضرات تستضيف أكاديميات وأكاديميين فلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية أو من خلال الشروحات المستفيضة عن التخصصات وطرق التسجيل والتسهيلات الممنوحة.
في حين يرى البعض أنّ الارتفاع المتزايد في أعداد المقدسيين في الجامعات الإسرائيلية هو في المحصّلة لصالحهم إذ يكسبهم التحصيل الأكاديمي المناسب ويسهل عليهم الحصول على فرص عمل جيدة، إلا أنّ آخرين لا ينكرون هذه النتائج الإيجابية الفردية لكل طالبة وطالب، بينما يدعون إلى النظر إلى السياق العام الذي تحصل فيه عمليات التشجيع والاستقطاب الإسرائيلي لهؤلاء الطلاب والذي هو في مجمله سياق أمني سياسي.