طبخة ترامب

13 ديسمبر 2017
+ الخط -
حينما وصلت طائرة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في أول رحلة جوية مباشرة إلى مطار اللد قادما من الرياض، في 22 مايو/ أيار 2017، بدأت حكاية اليوم التي طبخت بالأمس.
افتخرت الرياض بزيارة ترامب للمملكة بالطبع، كونها المحطة الأولى في أولى جولاته الدولية. وعلى الجانب الآخر، سجلت الصحف الإسرائيلية مصطلح "الغيرة من الرياض"، إثر ما ادعت أن ترامب اختص به الرياض، في حبكة فريدة وماكرة بين ترامب وإسرائيل، وخصوصا أنها مختصة لإسرائيل، وليست للرياض، إذ لم تكن الأخيرة إلا محطة وقود سياسي واقتصادي، وهو الأمر الذي بعث العرب على الانقسام بين مرحبٍ ومتوجّسٍ من خطة ماكرة يحيكها ترامب للمنطقة برمتها.
يدرك المتتبّع لخط الزيارة الديني أن هناك شرّا تأبطه ترامب هذا، وليس فقط مجرد رسالة أراد نقلها إلى العالم، مفادها كسر المقاطعة بين المسلمين وإسرائيل، على اعتبار أن المملكة تمثل قدسية الحرمين الشريفين وثاني القبليتين "قبلة الإسلام"، ومصدر ثقله الديني، تمهيدا لتحقيق تنازلات أكبر، ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل الديني أيضا. وقد قاد ترامب مناورة لعملية التطبيع الكامل مع أخذ الإشارة الأولى، ومباركة المسيرة من أرض الحرمين، بعد إلقاء خطاب، سمّي بالتاريخي، على ما يزيد عن 50 قائد دولة إسلامية، سواء علموا بما يدار في دهاليز السياسة أم جهلوا، أدركوا ما وراء نبرات الخطب أم تجاهلوا.
الغريب أن كبار مسؤولي إسرائيل تندّروا بالمستضيف وبالضيوف، أي بالعدد أيضا، وتندروا 
بما تغابى عنه العرب، بالقول الذي ورد في صحافتهم حينها: "ليس أمرا عاديا أن يعلن رئيس أميركي أمام أكثر من 50 زعيما عربيا ومسلما أن القدس عاصمة إسرائيل، وأن يذكر اسم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى جانب تذكيره لهم بمسؤوليتهم عن محاربة الإرهاب". ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت قولا لرئيس ديوان الحكومة الإسرائيلي الأسبق يسخر فيه من حسن الضيافة الذي استقبل به السعوديون ترامب: "ليست لدينا قصور مذهّبة لنرحب بك فيها كما في السعودية، ولن نستطيع استقبالك بقوافل الجمال، أما مصارفنا فلن تغرقك بالنقود، فيما لن تنفق بلادنا ثرواتها عليك". وصرح حينها اليميني الإسرائيلي، أرئيل كهانا: "انتصر ترامب لإسرائيل أمام الحكام العرب في الرياض".
الزيارة التاريخية الأولى التي خص بها دونالد ترامب السعودية، وقبض أثمانا فوقها، سمّوها قمة أميركية إسلامية، وما هي إلا قمة تنازلات، إن لم نقل خيانات، بما صرح به ترامب سلفا عن نيته نقل سفارة دولته إلى القدس. تقتضي المعاهدات الدبلوماسية أن يكون مقر السفارات في عواصم الدول، وليس في المدن الأخرى، ما يعني تعنّتا أميركيا ليسوّق تداعي نقل سفارات أخرى بعده، بتحشيد أميركي بحيث يسهل النقل، كإجراء دبلوماسي، عملية تسمية القدس عاصمة للمحتل الإسرائيلي، ونسف الحق الفلسطيني لشعبٍ في أرضه، ومن ثم الحق الديني لأمةٍ بأكلمها في أولى القبليتين، وضرب قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة عرض الحائط، حتى في أن القدس الشرقية أرض محتلة، حسب القرار 242، وإجراءات تهويد المدينة منذ احتلالها عام 1967 واعتبارها عاصمة موحدة لها منذ عام 1980 أمر رفضه مجلس الأمن الدولي في قرارين.
كان التطبيع الذي قادته الصحف الإسرائيلية لتحقيق خطة ترامب واضحا، قبل وصول الأخير إلى تل أبيب، فقد ذكرت "يديعوت أحرونوت" أن الإدارة الأميركية سلمت الحكومة الإسرائيلية مسبقا نص خطاب ترامب أمام القمة العربية الأميركية في الرياض. ثم ركزت على اللعب على وتر التاريخ لصياغة الجغرافيا، في حبك المواجهات المباشرة بين بني الإسلام نفسه، أعني العزف على نغمة الطائفية، فباتت لغة الإعلام لديهم تطبّع تقارب العرب غصبا مع إسرائيل، ولكن لأية أهداف، وعلى أي مقياس؟ مقياس "أن إيران بسياساتها دفعت مناطق عديدة في الشرق الأوسط نحو إسرائيل"، وتلك معادلة صعبة تستخدم فيها إسرائيل الإسلام درعا بشريا في مواجهة بعضه، فالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وتقسيم منطقتنا العربية لضمان أمنها لا يختلف عليهما اثنان، والاستغلال الإسرائيلي الأميركي للخلافات، وتأجيج الفتنة والطائفية واستغلالها باتت خطة مكشوفة لضربنا ببعضنا لتنعم هي بالأمن.
الوضع مبك، فإننا نحزن على ما آل إليه الوضع في مهبط الوحي وثاني القبليتين قبل أولاها... 
لم تكن السعودية إلا المحسودة على الموت.. ليس آنذاك فحسب، بل حتى هذه اللحظة، حيث لم تكن الخطة التي سعى إليها ترامب إلا خطة صهيونية "تواطؤية" مدروسة، لتفتيت المملكة قبل غيرها، وتمزيق لحمة العرب، قبل تفتيت أي بلد في الخليج العربي، سواء بمكر ترامب، أو من تواطأ معه من حكام الخليج ضد دولهم وشعوبهم، فالشعوب أوعى بالمؤامرة الكبرى التي لعب ترامب فيها على أوتار ضرب الإخوة بعضهم ببعض، وتفتيت وحدة المسلمين القائمة على "السنة النبوية" في خطة لزجّ المملكة في حرب مباشرة مع إيران، لصالح الأقطاب الدولية الكبرى، وإدخال الخليج في أتون فوضى حروبٍ بالوكالة، لتقسيمه ونهب ثرواته، كما العراق، بعد تمزيق نسيجه الاجتماعي والديني الذي هو مصدر قوته.
كانت الطبخة في زيارة ترامب "مستوية" والخطة مكشوفة، وما استشهد به الإسرائيليون حينها في قولهم إنه مما يدل على "جرأة" ترامب أنه عبّر عن مواقفه الداعمة لإسرائيل، وغير المهادنة للعرب، بعيد توقيعه على العقود الضخمة بمئات مليارات الدولارات.
ولا مبالغة في القول إن السعودية هي أول فريسةٍ قدمت نفسها على طبق من ذهب، وستجرّ المنطقة برمتها إثر تنازلاتها، إلى فقدان السيادة على ذاتها، وستجر وراءها المنطقة إلى دمار.. وخصوصا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وصف زيارة ترامب بأنها تاريخية، وقال "بالأمس في السعودية ألقيتَ خطاباً مهمّاً عبّر عن معتقداتكم وآرائكم للقضاء على الإرهاب والتطرّف، ودعوتكم قوى الحضارة لمواجهة قوى البربرية والوحشية، سيكون لنا شرف استقبالكم في القدس، وأن تكون معنا هنا في الذكرى الخمسين للقدس، وهذا يجعلنا سعداء أن نعرف أن حلفاء إسرائيل يعون جيداً قيمة القدس بالنسبة للإسرائيليين، فهي القلب النابض للشعب اليهودي، كما كانت قبل 3000 عام". كانت القدس حاضرة في ملف الرياض، وبيعت فيها بثمن بخس وكانوا فيها من الزاهدين...
لن نضيف إلا ما قاله ناجي العلي رحمه الله: "الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة.. إنها بمسافة الثورة". الثورة الشعبية... المقاومة الشرعية للدفاع عن المقدسات ضد المحتلّ، هل علمتم إذاً لمَ يسمّيها محور الشرّ "تحريضاً وإرهاباً"؟
Twitter: @medad_alqalam
36E7A5AB-5C4F-4CC3-A27F-F8C022C765BC
36E7A5AB-5C4F-4CC3-A27F-F8C022C765BC
مريم الخاطر

كاتبة وباحثة قطرية، دكتوراه في أثر الإعلام الجديد "الاجتماعي" على التحولات السياسية في منطقة الخليج العربي. متخصصة في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية. محاضرة في جامعة قطر، لها عدة مؤلفات.

مريم الخاطر