على مدى 18 عاماً، شارك في تشييع شهداء قطاع غزة من مختلف محافظاتها الشمالية والجنوبية. يؤمن بتخليد ذكرى الشهداء من خلال صورهم التي تُعلّق بعد استشهادهم، وهو ما اعتاد فعله منذ كان طفلاً لم يتجاوز 12 عاماً. في الوقت الحالي، يحفظ أسماء أكثر من 5000 شهيد من قطاع غزة، استشهدوا بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
طارق حسن درويش (29 عاماً) من مخيم المغازي شرق وسط قطاع غزة. تعود أصول عائلته إلى بلدة جماسين الغربي قرب بئر السبع جنوب فلسطين، ونزح أفرادها إلى مخيم المغازي بعد النكبة. كانت حادثة استشهاد محمد الدرة في 30 سبتمبر/ أيلول في عام 2000 في مخيم البريج، نقطة انطلاقة له لتخليد ذكرى الشهداء وجمع صورهم وتفاصيل استشهادهم.
عن ذكرياته في تلك الفترة، يقول درويش لـ "العربي الجديد": "لم تُفارقني صورة محمد الدرة حين رأيته على التلفاز. أينما ذهبت، سواء في الشوارع أو البيوت، كنت أرى فيديو استشهاده أمامي، وأتساءل كيف لهذه الوحشية أن تقتل طفلاً عمره 12 عاماً وهو في حضن أبيه والعالم كله صامت. بعدها، صرت أشارك في جنازة كل شهيد وأسأل عن قصته وأحفظ صورته".
في بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، كان درويش يعاني خلال التنقل للمشاركة في جنازات الشهداء لأن قطاع غزة كان محتلاً من جيش الاحتلال الإسرائيلي بين عامي 2000 و2005. خلالها، كان يستيقظ منذ ساعات الصباح الأولى لينتظر ساعتين عند الحواجز حتى يدخل إحدى محافظات القطاع. وفي أيام أخرى، كان يتعرّض لمخاطر من جيش الاحتلال الذي يمنعه من دخول الحاجز والعودة إلى منزله، ليبيت عند أحد أقاربه أو ينتظر على الحاجز حتى ساعات الصباح الأولى، ثم يدخل.
كثيراً ما عُوقب درويش من قبل أسرته علّه يتوقف عن المشاركة في المسيرات خوفاً عليه، إضافة إلى صرف مصروفه على المواصلات للوصول إلى جنازات الشهداء. كان يفضّل ذلك على التوجه إلى المدرسة التي تركها في الصف الثاني الإعدادي. لاحقاً، أيقن الوالد أن لدى ابنه "حسّاً وطنياً"، فكان يتركه حرّاً بتصرفه. ويذكر أنّه خلال الانتفاضة الثانية، لم تكن التقنيات الإلكترونية متقدمة لتصميم صور الشهداء، فكان الأمر يستغرق نحو يومين أو ثلاثة. يشارك في الجنازة ثمّ يطلب صورة الشهيد من أسرته بعد انتهاء العزاء. وكان البعض يتعجب لصغر سنّه، وإصراره على حفظ الصور بعد قطع مسافات طويلة للحصول عليها.
ويلفت درويش إلى أنه إثر العدوان المتكرر على غزة، وقصف منازل الغزيين من طائرات الاحتلال، فقدت بعض عائلات الشهداء صور أبنائها الذين استشهدوا قبل اندلاع العدوان المتكرر على غزة ما بين عامي 2008 و2014. وشاءت الأقدار أن وصلوا إليه وعرفوا أنه ما زال يحتفظ بصورهم، ويمنحهم حقّ تصويرها وليس الحصول عليها.
قبل 10 سنوات، علم القيادي في حركة "حماس" محمود الزهار بما يفعله درويش، ومنحه وظيفة عمل في فضائية الأقصى التابعة للحركة. وكان حريصاً على تذكير العاملين في القناة بأسماء الشهداء وتواريخهم.
يضيف درويش: "شهداء فلسطين غالبيّتهم شهداء من المقاومة. لا أجد فرقاً بين شهيد وآخر. لكنني قررت أن أصمّم صور كل الشهداء مع فصيلهم السياسي، ووضع تواريخ استشهادهم من الأقدم إلى الأحدث. جمعت أكثر من 4000 صورة، وأحفظ أكثر من 5000 اسم شهيد وتاريخ وسبب استشهاده".
خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008 – 2009، لم يكن يتنقل درويش لجمع صور الشهداء، نظراً للظروف التي كانت مفروضة على غزة وحظر التجوال في عدد من المناطق والقصف واقتحام جنود الاحتلال. وبعد العدوان، توجه إلى عائلات الشهداء محاولاً الحصول على صورهم.
العدوان الإسرائيلي الثاني على قطاع غزة في عام 2012 كان مؤلماً بالنسبة إلى درويش وأسرته، بعدما استشهد شقيقه أشرف رابع أيام العدوان، بتاريخ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، عندما كان يشارك مع جهاز الدفاع الجوي التابع لكتائب عز الدين القاسم، الجناح العسكري لحركة حماس، وكان أكثر الداعمين لموهبته في حفظ أسماء وصور الشهداء.
موهبة درويش حظيت بانتشار كبير بين فصائل المقاومة في قطاع غزة، وكانوا يدعونه إلى بعض احتفالاتهم أو ذكرى تأبين الشهداء، وكان الناس يسألونه عن بعض تواريخ الشهداء وأسباب استشهادهم.
كان يتمنى أن يتمتع بحرية التنقل لتوثيق صور وتواريخ استشهاد شهداء الضفة الغربية. لكن ظروف الاحتلال وانفصال شقي الوطن الفلسطيني حالا دون ذلك. في الوقت الحالي، يتولى درويش توثيق أسماء جميع الشهداء عبر كتاب صغير، يطمح من خلاله إلى أن يحظى بدعم لطباعته مع صورهم، بعدما قضى 18 عاماً في توثيق الاستشهاد لجميع الفصائل والشهداء، وحتى غير المنتمين إلى أي حزب سياسي.